* بقلم: أ. د. عبدالمنعم الطائي/ باحث وأكاديمي عراقي
على تغاير الأماكن والأزمان، وتبدّل الدول والحضارات، تظل القيم الخلقية نقطة الارتكاز في مسيرة الأُمم والشعوب، فبالتمسك بها يكون التقدّم والصعود، وبالتنازل عنها والتفلت منها يكون الانهيار والسقوط.
ولقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 53)، ووصف رسوله الكريم (ص) بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)، مؤكداً بذلك أنّ أحد العوامل الأساسية لنجاح الدعوة الإسلامية وتمكنها من تحقيق أهدافها الكبرى إنّما كان بما تميّز به نبينا العظيم (ص) من خلق عالٍ أريد لهذه الأُمّة قيادات وشعوباً أن تسير على هديه فيه لكي تكون سيدة في هذا العالم.
ولعل واحداً من أهم عوامل انهيارنا الحضاري عبر القرون الأخيرة، هو ضعف، وربّما غياب، الوازع الخلقي الذي هو أساس يقظة الضمير وفاعلية الأُمّة، وقدرتها على العطاء والإبداع.
ومن قبل كان الشاعر المعروف "أحمد شوقي" قد جمع هذه المعاني في بيت من الشعر تناقلته الأجيال بما انطوى عليه من معانٍ ودلالات:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت **** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إنّ الكثيرين يذكرون – على سبيل المثال – كيف كان انهيار فرنسا السريع على يد القوات الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية، بسبب تفكك القيم الخلقية هناك.
ويذكرون – كذلك – كيف أن زعماء الدول الكبرى في ستينيات القرن الماضي من مثل "كنيدي" في أمريكا، و"خروتشوف" في الإتحاد السوفيتي السابق، حذروا شعوبهم من الانجراف وراء الملذات وتجاوز مطالب القيم الأخلاقية، وأن ذلك قد يكون عاملاً ذا تأثير بالغ على مصائر الدولتين، ولقد جاءت الأحداث لكي تعزز مخاوف الرئيسين المذكورين.
إنّ الوقائع التي تؤكِّد دور الأخلاق في نهضة الأُمم أو دمارها كثيرة، وكتابات المفكِّرين ودعاة الإصلاح كثيرة هي الأخرى، وقبل هذا وذاك تأكيدات كتاب الله سبحانه وسُنّة رسوله (ص) على خطورة هذه المسألة.
إنّ القيم الخلقية هي التي تنظم سلوك الأفراد والجماعات، وتضع مؤشراته وضوابطه، وتلعب دوراً كبيراً في حركة الأُمم ونموّها، وأنّه في حالة ضياع هذه القيم فستكون هناك الفوضى، وسيعم الاضطراب سائر العلاقات، فيكون التفكك والدمار.
إنها أشبه بإشارات المرور الكهربائي التي تنظم السير في شوارع المدن الكبرى، وبالجاذبية التي تنظم حركة الكواكب والنجوم في ساحات الكون، فلولا هذه وتلك لحدثت الفوضى والارتطام، سواء في الشوارع والمدن، أم في بنية الكون.
إنّ هناك قيماً كثيرة نعرفها جميعاً لأنّنا نتعامل معها سلباً وإيجاباً في كل يوم، بل في كل دقيقة، في بيوتنا ومدارسنا وأسواقنا ومؤسساتنا وعلاقاتنا كافة، مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والشجاعة، والإخلاص، والإحساس بالمسؤولية، ويقظة الضمير، والمروءة، والإيثار، واحترام الكبير، والعطف على الصغير، ومراعاة حقوق الجار، وكفالة الفقراء والمستضعفين، والجد في العمل والالتزام بالمواعيد وعدم نكث العهود والمحبة والتضحية... إلخ.
لنتصور مجتمعاً من المجتمعات التزم بهذه القيم في حياته اليومية، ونشاطه العملي، كيف سيتقدم في مضمار الرقي الحضاري، وكيف أنّه بتخلّيه عنها سيتأخر بلا شك، وسيدع المجال للأُمم والجماعات الأكثر إلتزاماً بهذه القيم لكي تسبقه وتتفوق عليه.
وإذا نظرنا إلى التاريخ فإنّنا نستطيع أن نفسر انهيار وزوال الكثير من الدول والإمبراطوريات والحضارات بهذه العامل الأخلاقي تحديداً..
حقاً إنّ الشاعر "أحمد شوقي" لخّص ببيته ذاك الكثير مما يمكن أن يقال في علاقة منظومة القيم الخلقية بقوة الأُمم وضعفها، بارتفاعها وسقوطها على السواء.. وهكذا يكون شعر الحكمة مدرسة يمكن أن نتعلّم منها الكثير، وصدق رسول الله (ص) القائل: "إنّ من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة".