* بقلم: أ. د. المنعم الطائي/ باحث أكاديمي عراقي
تراجع تأثير العقل المسلم في الحضارة الإنسانية عبر القرون الأخيرة، وبخاصة في أعقاب نهضة الغرب الصناعية وتفوّقه المادي المتزايد، وأصبح المسلمون عالة على غيرهم، بعد أن كانوا قد تبوّؤا مركز القيادة الحضارية حيناً من الدهر.
وما من شكّ في أنّ هناك أسباباً عديدة اجتمعت لتقود إلى هذه الحالة، وأهمها ولا ريب:
- أوّلاً: تخلّف علماء المسلمين عند الأخذ بأسباب المدنية الحديثة منذ مراحلها المبكرة، وبخاصة في مجالي العلوم الصرفة والتطبيقية، وازدياد الهوّة بين الغرب المتقدّم والشرق المتخلّف عمقاً وامتداداً بمرور الوقت، ولم تكن حركات التجديد الإسلامي، على ما قدمته من عطاء، بقادرة على الإستجابة لتحدي التفوق الغربي، بسبب من رؤيتها التجزيئية، وانكماشها على جوانب ضيقة عبر بحثها عن الذات، في مواجهة ذلك التفوق.
- ثانياً: اختيار قطاعات واسعة من المسلمين، بما فيهم العديد من قادة الفكر، والرأي، صيغة الهروب من المجابهة الحضارية، والتشبث السكوني بالماضي، واعتبار أية محاولة للإفادة من الفرص الإيجابية للتفوّق الغربي خروجاً عن الجادة.. وقد ساعد على هذا توقف حركة الإجتهاد بسبب العجز والخوف وعدم القدرة على الإبتكار والتجديد.
- ثالثاً: تمركز القيادات الفكرية والتربوية بيد السلطات الإستعمارية التي كانت إلى وقت قريب تباشر قيادة الحركة الثقافية في بلدان العالم الإسلامي، وتحجب عنه السبل السليمة للإفادة من خبرات الغرب العلمية والتقنية، ومحاولة إعادة البناء على أسس متينة.
- رابعاً: تضاؤل الإيمان، والثقة بالذات، لدى غالبية الفئات المتعلمة من أبناء العالم الإسلامي، وانبهارها بمعطيات الغرب المتفوق، إلى حدّ التنازل عن قيمها الأصيلة، ورؤيتها المتميّزة، وفنائها في الغالب، واعتبارها الوجود المادي المنظور هو المصدر المعرفي الأوّل والأخير، والحكم الحاسم في بنية الفعل الحضاري، واهتزاز الإيمان بالغيب مصدراً أساسياً للمعرفة، الأمر الذي ترك الساحة نهباً للتيارات المادية التي ترفض الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وترى في منظومة القيم الخلقية مجرّد أدوات نسبية لتحقيق المصالح والأهواء.
ولما كان كتاب الله وسنّة رسوله (ص) يتضمنان رؤية مغايرة تماماً، تسعى لإقامة البناء الحضاري على قاعدتي الغيب والوجود معاً، وتقيم الحياة البشرية على أسس أخلاقية ثابتة وسليمة.. ولما كان هذان المصدران ينطويان في الوقت نفسه على حشود من الخبرات والتقاليد والحقائق والكشوف العلمية الضرورية، بإضافتها إلى البعد الإيماني، لتحقيق التوازن المطلوب الذي افتقدته الحضارة الغربية المعاصرة.
فإن قيام حركة أسلمة المعرفة، أو التأصيل الإسلامي للمعرفة، يعد من الضرورات الملحة لتجاوز الصيغ الخاطئة في التعامل مع الأصول الإسلامية قرآناً وسنّة من جهة، ومع المعطيات العلمية للحضارة الغربية من جهة أخرى، ولسوف ينصب الجهد، بصيغه وقنواته كافة، على إعادة الثقة بالذات للمسلم الذي سيجد مصادره الإسلامية قد سبقت إلى التأكيد على التعامل العلمي العقلاني مع العالم المحيط، للكشف عن سننه واستخراج طاقاته المذخورة، وإقامة حياة متوازنة سليمة لا إفراط فيها ولا تفريط، حيث يلتقي العلم بالإيمان، كما أراد لهما الله ورسوله (ص)، ويستقيم المسار الحضاري بعد إذ انحرفت به السبل عبر القرون الأربعة الأخيرة، ويرجع المسلمون إلى مركز الفاعلية الحضارية كرة أخرى