* جان بودريار
* ترجمة: منير الحجوبي وأحمد القصوار
تشكل التفاعلية (من فيديو وشاشة تفاعلية ووسائل الاتصال المتعددة وأنترنيت وواقع افتراضي) تهديداً فعلياً لنا. لقد تم في كل مكان وصلُ وتذويبُ المسافات والاختلافات بين الأجناس والأقطاب المتعارضة، وبين القاعة والمشهد، والواقع وضِعْفه، والذات والموضوع، وهو ما أفضى إلى خلط جذري في المصطلحات وإلى اصطدام هائل بين الأقطاب جعل من المستحيل الاستمرار في لعبة إقامة التمييزات والحدود أو إصدار الأحكام سواء في الفن أو الأخلاق أو السياسة.
لقد أصبح كل شيء ملتبساً بفعل تقويض الحدود بين الأشياء، وحتى في المجال الفيزيائي يخلف القرب الشديد للمستقبل من مصدر الإرسال ما يسمّى أثرَ لارْسَن الذي يعني ارتداد المستقبل على الموجات الأصل للتشويش عليها، كما يشوش القربُ الزمني الشديد للحظة وقوع الحدث وإذاعته في الزمن الواقعي على قراءة الحدث، حيث ينزع عنه الطابع التاريخي (الحدثي) ويحوله إلى حدث افتراضي. وسواء كانت تكنولوجيات الافتراضي هي المسؤولة عن هذا الوضع أو كان عالمنا الواقعي هو ما يستدعي هذه التكنولوجيات، فإن ذلك لا يغير شيئاً من كوننا أصبحنا نعيش في عالم انتهى كعالم ثنائيات وأقطاب.
هذا ما نلاحظه حتى في البرامج التلفزية الحوارية المباشرة، حيث تختفي المسافة بين الوجود وضِعْفه فلا يبقى هناك أي فضاء فاصل أو فارغ بينهما. حينها نلج الشاشة والصورة الافتراضية بلا أية حواجز، حيث تذوب المسافة بين حياتنا (كخارج بالنسبة للشاشة) والشاشة (كخارج بالنسبة لحياتنا). حينها، تأخذ حياتنا نفس البنية الداخلية للشاشة. باختصار، تتحول حياتُنا إلى فضاء رقمي.
وخلافاً للصورة الفوتوغرافية والسينما والتشكيل التي تتميز بوجود مشاهد يمكن معاينتها من الخارج، تجرُّنا صورةُ الفيديو وشاشةُ الحاسوب إلى الانغماس العميق والسري داخلها. وهذا ما كان ماكْلُوهَانْ يسميه بالتفاعل "الملموس" لوسائط الاتصال.
يشبه هذا التفاعل ما يحدث عند عملية انغماس خلوي بسيمي حيث ندخل المادة السائلة إلى الصورة لتعديلها من الداخل، تماما كما يفعل العلم عندما يتسلل إلى قلب النظام الجيني لاحداث تغييرات في الجسم.
قد تكون لنا حرية فعل ما نريده بالصورة التفاعلية. لكن الانغماس العميق داخل الصورة هو الثمن الذي يؤدي مقابل هذا "لحرية". تشير تلك التوليفة المسماة النص الافتراضي إلى ما أريد التعبير عنه هنا. نعلم أن النص الافتراضي يُبْنَى ويشَكّلُ كبنية رقمية لا تحيل إلا على ذاتها. وما إن نجلس أمام الشاشة حتى نتوقف عن إدراك النص بوصفه نصّاً. إذ يتحول إلى صورة ويغادر هويته الأولى كنص. كذلك الشأن بالنسبة للمشاهد الذي أصبح يُبْنَى ويشكّلُ داخل الصورة. من ثمة السؤال التالي: هل هو أوج أم نهاية المشاهد؟ الجواب هو أنّه عندما يغدو الجميع فاعلاً، يغيب الفعل والمشهد كإمكانية ميتافيزيقية، أي كإمكانية خارجية عن الذات: إنها نهاية الوهم الجمالي.
لا تنتج الآلات سوى الآلات. وهذا ما يؤكده تطور تكنولوجيات الافتراضي. إذ يفضي التقدم في المكننة إلى تذويب التمييز بين الإنسان والآلة. ولربما لم يعد الإنسان إلا الواقعَ الافتراضيّ للآلة، وهذا ما تشير إليه الشاشة واستراتيجيتها. إذ أننا نلاحظ، بفعل الافتراضي، أن أبعادَ الزمن ذاته تمتزج في الزمن الواقعي عبر الشاشة. إن خاصية أو سياسة أيّ سطح افتراضي هي أن يقدم كسطح فارغ وبالتالي كسطح قابل للملء بأي شيء، بحيث يبقى للمرء فقط الدخولُ في علاقة تفاعلية مع الفراغ داخل زمن مباشر وواقعي.
لا تنتج الآلات إذن سوى الآلات، فالنصوص والصور والأفلام والخطابات وبرامج الحاسوب كلها إنتاجات لها بنية الآلة: فهي مشكلة بشكل اصطناعي، والأفلام مليئة بالمؤثرات الخاصة، والنصوص حافلة بالحشو الذي مردُّه الإرادة الماكرة للآلة في الاستمرار في الاشتغال مهما كان الثمن. وهذا ما يفسّر الطابع المُملّ لمشاهد العنف والإباحية الجنسية التي تقدم كمؤثرات خاصة. وحتى وإن اتخذ البشَرُ تلك المشاهد موضوعات لاستيهاماتهم فلن تغدو أن تكون مجرد عنف خالص لا أثر له. ونفس الشيء بالنسبة لنصوص من صنع وكلاء افتراضيين "أذكياء" لا يقومون سوى بعملية واحدة، هي البرمجة، في حين تنفّذُ باقي العمليات بكيفية آلية.
وهذا هو موضوع السيبرنطيقا، علم التحكم من الداخل في الصورة والنص والجسد، التحكم من الرحم عبر تحريك وتسخير الرموز والخصائص الوراثية.
هل توجد إمكانية فعلية لاكتشاف شيء ما داخل فضاء الأنترنيت؟ لأول وهلة، يظهر أن الأنترنيت يخلق فضاء ذهنياً حراً، فضاء للحرية والاكتشاف. إنه لا يعرض في الواقع، سوى فضاء خطيا. فَرائدُ الأنترنيت يتفاعل مع عناصر معروضة ومواقع جاهزة ورموز متواضع عليها. لا يوجد أي شيء غير خاضع لمراقبة فعلية، ولتوجيه مسبق. كل سؤال مقر لجواب مقدم، فأنت المستجوب والمجيب الآليين، والرامز وفكّاك الرموز، والمرسل والمرسل إليه: هذه هي نشوة الاتصال. لم يعد هناك أي آخر قبالتك، كما لم تعد هناك وجهة نهائية أو غاية أخيرة أو مقصدية خارجية. وكل ما في استطاعتك هو إنتاج وإعادة إنتاج ذاتك إلى ما لا نهاية. يشبه هذا الدوارُ الإلكتروني والمعلوماتي الدوخةَ الناتجةَ عن مُخدّر. أكثر من ذلك، يمكن للمرء أن يقضي حياته كلها في هذا الدوار، وليست المخدرات سوى النموذج الكامل لتفاعلية لا معقولة داخل مدار مغلق. وحتى يتم تطويعك يقال لك إن الحاسوب ليس سوى آلة كاتبة مركبة سهلة الاستعمال، وهذا غير صحيح على الإطلاق. فالآلة الكاتبة بعيني الصفحة البيضاءَ أو المكتوبة. باختصار إني أبقى خارج استراتيجية الآلة. أما في ما يتعلق بالشاشة، فالأمر مختلف تماماً. إذ أن ما يربطني بشاشة الحاسوب هي علاقة تداخل جذري وليس فقط علاقة تفاعلية. مع الحاسوب، أتحول إلى طبقة خارجية للشاشة. وفي ظل هذا التداخل القوي بين الصورة الافتراضية والدماغ، تنتج اختلالات تصيب جسدك تماما مثل تلك التي تصيب الحاسوب.
وكوننا نتعامل مع شبكة (لها الأولوية على الأفراد) معناه، كما سبق، سحقُ الذات داخل الفضاء اللامادي للافتراضي. من هنا يتعذر ضبطك حتى بالنسبة لك شخصياً، وهو ما ينهي أو يبشر بنهاية خطاب وقضايا الهوية دون احتساب قضايا الغيرية.
إن جاذبية الآلات الافتراضية مردّها إلى إرادة الإبادة والانصهار داخل حميمية شبحية. ولا علاقة للأمر برغبة في التعارف أو التواصل أو حتى اللقاء. تشتغل هذه الحميمية كبديل عن السعادة. ولا تقترب الافتراضية من السعادة إلا لكونها تسحب خلسة كل إحالة على الأشياء والمرجعيات. إنها تعطيك كل شيء. لكنها تجردك في نفس الوقت وبدقة من كل شيء. يتم تحقيق الذات في الافتراضية بشكل كامل. لكن، عندما تكون الذات على هذا الوضع، تصبح بشكل آلي شيئا ضمن الأشياء الأخرى. وهذا هو الرعب بعينه.
المصدر: كتاب الفكر الجذري