* نزار حيدر
يتساءل العراقيون ببراءة واستغراب: هل يمكن أن يتورط مَن احترقت جبهته من كثرة الصلاة، بالسرقة؟ وهل من الممكن أن يتورط مَن شبّ على ثقافة الدين وتحت منابر الخطباء، بالفساد المالي والإداري؟
لقد حكمت العراق تيارات ايديولوجية مختلفة، كان من أبرزها التياران القومي واليساري، وكلها أفسدتها السلطة، فبعد أن كانت هذه التيارات ترفع شعارات (إنسانية) حلوة وجميلة تستهوي القلوب، إذا بها تسقط في امتحان السلطة الى الحضيض.
وفي كل مرّة تبدأ القصة عندما ينطلق الصراع عنيفاً بين القيم والمثل النبيلة التي يتربى عليها (المؤدلجون) وهم خارج السلطة، في المعارضة مثلاً، وبين الواقع الجديد الذي تفرضه متطلبات السلطة، ولأنّ الأخيرة أشدّ تأثيراً في النفوس، لذلك تنتصر متطلبات الواقع على القيم والمثل، التي يبدأ (المؤدلج) يشعر إزاءها وكأنها تنظيرات ومثاليات لا يمكن تطبيقها أو الالتزام بها على أرض الواقع، بعد أن كان يعتبرها أساس نضاله الايديولوجي والسياسي ضد الزمر المنحرفة وضد مصاصي دماء الشعوب، وضد قوى الامبريالية والصهيونية وما الى ذلك من الشعارات.
كل هذا كان الى ما قبل التاسع من نيسان عام 2003، إذ لم يكن التيار الديني قد تورط بمثل هذا الصراع بين المثل والقيم التي ربى عليه أبناءه وأنصاره، وبين واقع السلطة.
ولذلك كنّا نفخر بأن التيار الديني أنظف كل التيارات (المؤدلجة) غافلين عن حقيقة السبب في ذلك، ألا وهو عدم تورطه، حتى ذلك الحين، باختبار السلطة، فالحكمة تقول: "عند الامتحان يكرم المرء أو يهان".
كنّا نظن بأن مجرد الادعاء يكفي لاثبات الشيء، ولم ندر ما كان يخبئه لنا الزمن، حتى اذا تصدى هذا التيار للسلطة بعد سقوط الصنم في بغداد، اذا بنا نشهد تساقط أوراق التوت عن عورته، الأمر الذي ذكرني بقصة ظريفة جداً حدثت لأخوين شقيقين، قرر الأول أن يهجر المدينة وضجيجها ليلجأ الى الجبال منقطعاً الى الله تعالى يعبده ويتضرع اليه وحده لا شريك له، فيما بقي الثاني يعيش حياة المدينة في محل الصياغة الذي يمتلكه في وسط السوق.
بعد مدة، وصل الأول الى درجة اليقين بالله تعالى، فأكرمه ربه بكرامة عجيبة، فكان يضع الماء في سلة من دون أن ينسكب من ثقوبها، فقرر أن يبعث بهذه الكرامة الإلهية الى شقيقه في المدينة ليفخر بها عند الناس.
وصلت الكرامة للثاني، الذي آثر أن يعلقها في محله ليراها الناس، مفتخراً بما آل إليه حال أخيه من الايمان والتقوى ومخافة الله عزوجل، فيما قرر في ذات الوقت أن يهدي شقيقه الكرامة التي أكرمه بها الله عزوجل، والمتمثلة بقطعة من القطن في وسطها جمرة من النار، فلا الجمرة تنطفئ ولا القطنة تحترق.
عندما وصلت الهدية الى الأول، استغرب من هذه الكرامة، وتساءل مع نفسه، ترى، ما الذي فعله شقيقه وهو في وسط السوق وفي محل الصياغة الذي لا تمر عليه للتبضع إلا النساء وجلهنّ من الحسناوات الفاتنات؟ فما الذي فعله شقيقه ليكرمه الله تعالى بهذه الكرامة، ويساويه فيها معه، وهو المنقطع عن الدنيا والبعيد عن تحديات الحياة واغراءاتها؟.
قرّر أن يذهب الى المدينة ليزور شقيقه في محله ليراقبه عن كثب لمعرفة حقيقة (التقوى) التي وصل اليها والتي أهلته لأن يرزقه ربه هذه الكرامة العظيمة، أسوة به.
عندما وصل الى محل شقيقه، وقف جانباً يراقبه ليرى كيف يتعامل مع الزبائن، وجلهم من النساء، فرآى انه لا يرفع عينيه بوجه الزبائن ويغض بصره عن مفاتن النساء ولا يتلصص بنظره ليتفرس وجه هذه أو صدر الأخرى أو مفاتن الثالثة.
في هذه الأثناء، انتبه الرجل (المتقي) المتفرغ لعبادة الله تعالى في الجبال والبعيدة، الى الزبائن واذا به وسط مجموعة من النساء الفاتنات، اللاتي جئن الى المحل للتبضع، فراحت عينه تخونه متلصصاً على هذه ومتفرساً صدر الأخرى ومندهشاً بجمال الثالثة، وهكذا.
في هذه الأثناء، بدأت كرامته (السلة التي تحفظ الماء من دون أن ينسكب منها والذي كان شقيقه قد علقها في المحل) يتسرب منها الماء قطرة فقطرة، ايذاناً من الله تعالى بسلب الكرامة منه.
حينها وقف الرجل على فلسفة (التقوى) وحقيقة (الايمان) ولماذا ساوى الله تعالى بينه (وهو المنقطع الى الله عزوجل) وبين شقيقه الذي يعمل في محل الصياغة مستعداً لمواجهة التحديات، فعرف ان سر (التقوى) يظهر عند الامتحان، وليس في الجبال والصحاري القفار، ولذلك ففي لحظة التحدي سقط في الامتحان، فسلب ربه منه الكرامة.
هذه القصة تلخص فلسفة القول المأثور: "عند الامتحان يكرم المرء أو يهان" وهو القول الذي يكشف، عادة، عن حقيقة التيارات (المؤدلجة) وما اذا كانت قادرة على التمسك بقيمها ومثلها النبيلة، ليس وهي تعيش في الجبال بعيداً عن تحديات السلطة، أبداً، فان في مثل هذه الحالة لا يوجد تحد واختبار، ولذلك لا يمكن الحكم مع أو ضد، وإنما عندما تنزل من قمم الجبال الى وادي السلطة، فكيف ستكون؟.
لذلك، أعتقد ان على الشعب العراقي اليوم وبعد أن جرب كل المؤدلجين، أن ينتبه جيداً، ليس الى صلاة المسؤول أو جبهته السوداء أو قيامه في الليل، أو حديثه (الديني) المنمق، أو خطاباته التي تستهوي العقول والقلوب وتبهر المستمع والمشاهد، أبداً.. وإنما الى تعامله مع الموقع، فانّ الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) كانوا ينعتون بـ(أصحاب الجباه السود) لكثرة صلاتهم، وان من قتل الحسين السبط (ع) في عاشوراء في كربلاء عام 61 للهجرة، كانوا من الحُفّاظ والقُرّاء، أي من حُفّاظ القرآن الكريم وقُرّائه.
ولكل ذلك قال رسول الله (ص) قوله المشهور: "الدين المعاملة"، فهو لم يقل الدين الصلاة أو الدين الصيام، أبداً، لأن كل ذلك علاقة بين العبد وربه، واذا كان فيها منفعة فهي له، أما المعاملة فهي العلاقة بين العبد وأخيه العبد، والى هذا المعنى يشير قول الرسول الكريم (ص): "المسلم مَنْ سلم الناس من يده ولسانه" أي انّ المسلم هو الانسان الذي لا يتضرر منه الناس، وإلا، ماذا ينتفع العراقيون بصلاة الوزير اذا لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ وماذا ينتفع الناس بجبهة الوزير (المحروقة) اذا كانت تبرر له السرقة وتفلسف له التعدي على حقوق الناس؟.
لقد قال لي مرة وزير من التيار الديني، انه وزميل له ينتمي الى نفس التيار يتوضئان قبل أن يذهبا الى وزارتيهما، ليباشرا عملهما على وضوء.
وقتها أحسنت الظن بهذا الوزير، ففسرت كلامه بطريقة ايجابية، فاعتبرت ذلك قوة في الدين وشدة في التقوى ومخافة الله تعالى، أما اليوم، وبعد أن تبين ان زميله متورط بالفساد، فقد أعدت تفسير قوله، فتبين لي انه كان يقصد بأن زميله يتوضأ قبل الشروع بالعمل في وزارته، ليشرعن سرقاته، فالوضوء يحلل المال المسروق، طبعاً على حد فهم السيد الوزير، وبكلمة أخرى، فإنني فهمت الآن من كلام الوزير ان زميله كان يتوضأ قبل أن يسرق.
آخر سألته عن موقع التربية (الدينية) التي نشأ عليها المسؤولون من التيار الديني منذ صباهم عندما انخرطوا في الأحزاب الدينية، وما اذا كانت تلك التربية غير كافية لردعهم عن التورط بالمال العام والفساد الاداري، الذي نسمع عنه؟ فرد علي بالقول: تلك كانت التربية النظرية، انها الكلام، والكلام، كما تعرف، قال لي، ليس عليه ضريبة، أما اليوم فنحن في قاعة امتحان كبيرة جداً اسمها العراق، وأنا، أضاف، لست متيقناً من امكانية أن يجتاز التيار الديني مرحلة الاختبار بجدارة، أو انه سيسقط كما سقط من سبقه من التيارات (المؤدلجة) التي تعاقبت على حكم العراق.
أعود للاجابة على سؤال العراقيين الذي توجت به المقال، لأقول:
بعد أن ثبت لنا بالدليل القاطع، تورط (التيار الديني) أو المتلبس بالدين، كالقاعدة وطالبان والعديد من التنظيمات (الدينية) في العراق وغير العراق، تورطها بالقتل والتدمير وعمليات التفجير بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، هل يمكن أن نستبعد تورطها بعمليات الفساد المالي والاداري؟ بالتأكيد لا، لأنها، وللأسف الشديد، توظف الدين لممارسة الانحراف، وهي لا تتورع حتى عن توظيف النصوص القرآنية لشرعنة سرقاتها وكل أنواع الفساد الاداري، ولماذا لا تفعل ذلك، بعد أن وظفت الدين وآيات القرآن الكريم لتحليل دم الناس واهداره بالقتل والذبح؟.
لقد طلب أحد الناس الصفح من أحد العلماء المجتهدين، على ما كان يغتابه في الأيام الماضية، فردّ عليه الفقيه بالايجاب بلا تردد، فسأله مَن حوله: ألم يكن من الأفضل أن تتريث قليلاً لتعرف حقيقة الرجل؟ فقال لهم: أنا أبرئ ذمة كل مَنٍ يغتابني، إلا (المؤمن) منهم، استغرب الحضور من قوله، وسألوه: لماذا يا مولانا؟ فقال: لأن الناس العاديين يغتابونني بجهل، أما (المؤمن) فانه يفسقني (بتشديد السين) أولا، ثم يورد الحديث الوارد عن الرسول (ص): "لا غيبة على فاسق" ثم يغتابني، وهو بذلك لا يعتبر حديثه عني غيبة لأنه فسقني قبل أن يغتابني.
ولذلك أعتقد ان سقوط (التيار الديني) في امتحان السلطة سيكون أكثر مدوياً من سقوط أي تيار آخر سبقه الى قاعة الامتحان، لأنه سيسقط وهو متلفعاً بعباءة الدين، ولهذا فان عليه أن ينتبه الى نفسه لأنه سيلحق الضرر بدين الناس وتدينهم، فقد يتسبب بردة فعل عند الكثيرين من الناس الذين يحاولون معرفة الحق بالرجال، فيما أوصانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) أن نعرف الحق لنعرف رجاله.
ومن أجل الوقوف بوجه التدهور الأخلاقي، فأنا أعتقد ان على التيار الديني أن يبادر فوراً الى تطهير صفوفه من الفاسدين، وأن يعاقبهم حزبياً قبل أن يحاسبهم القضاء، وأن يعيد منهم كل فلس سرقوه قبل أن يجبرهم القضاء على ذلك.
أما اذا أراد أن يتستر على اللصوص، أو يبرر للمفسدين، فانه الى الهاوية بالتأكيد، فدعاء الأيتام والأرامل لا يرحم، وانّ الله "لا يخدع عن جنته" كما في الماثور، فلقد كان أمير المؤمنين(ع) أول المراقبين وأشد المحاسبين لولاته وعماله، فكان ما ان يشم من أحدهم رائحة فساد أو لصوصية أو ظلم يسارع فوراً الى عزله وإبعاده عن موقع المسؤولية، لماذا؟ لأنه كان يشعر بأنه مسؤول عن كل ظلامة تلحق بمواطن قبل مسؤولية العامل أو الوالي، بل انه كان أشد وطأ على المحسوب منهم عليه، فلم يكن ليتساهل معه أو يتباطأ في محاسبته أو يبرر له فعله أو يخفيه عن القضاء، مثلاً.
أما هو شخصياً، فقد كان (ع) يتمتع بحساسية مفرطة من الظلم والتعدي على حقوق الناس، وعلى بيت المال، ولقد دوّن لنا التاريخ الكثير الكثير من القصص عنه (ع) بهذا الشأن، منها قصته مع أخيه عقيل، وموقفه من الجماعة التي عاتبته على التسوية في العطاء، وطلبت منه أن يميز بينهم وبين سائر المسلمين في العطاء من بيت المال، فردّ (ع) عليهم بقوله المشهور "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أم نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وانما المال مال الله؟ الا وان اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودهم، فان زلت به النعل يوماً فاحتاج الى معونتهم فشر خليل وألأم خدين"، وصدق امير المؤمنين (ع) عندما قال: "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع".
بل انه (ع) كان يدعو الى قتال مَن ينتحل انتماءه اليه اذا أخطأ أو ارتكب جريمة أو غش أو اعتدى على حقوق الناس أو مد يده الى بيت المال بغير حق، فكان يقول (ع) في وصف كل ذلك: "الا من دعا الى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه".
لقد كان (ع) يتبرأ من الظلم بكل طريقة، في القول والعمل، في الشهود وفي المغيب، في السر وفي العلن، فكان يقول: "والله لأن أعلى حسك السعدان مسهداً، أو أجر في الأغلال مصفداً، أحب إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع الى البلا قفولها، ويطول في الثرى حلولها"، ويضيف: "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين".
هذا هو نموذج التيار الديني، وهذا هو الأسوة لمن أراد أن يدعي انتماءه الى التيار الديني، أما أن يدعي انتماءه للدين أو لعلي ثم يسرق أو يعتدي أو يبرر للص، فإن كل ذلك ليس من الدين وليس من نهج علي في شيء.
وبالمناسبة، فلقد كان بإمكان الإمام أن يجد ألف حجة وحجة لتبرير الظلم، حاشاه من ذلك، فالدين كان طوع بنانه، ونصوص القرآن محفوظة في صدره، بل انه هو القران الناطق، كما يفعل اليوم الكثير ممن يدعي الانتماء الى الدين، ولكن، وكما قال رسول الله (ص): "لا يخدع الله عن جنته" فالتورية قد تخدع صاحبها ولكنها لا تخدع الله البتة.
أما رسول الله (ص)، فقد كان أشد من ذلك وهو القائل: "لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، فما بال الأحزاب (الدينية) تدافع عن فاسد في صفوفها أو متلبس بجريمة من وزرائها، أتظن انها بذلك تبرئ ساحتها؟ أم ان مبادرتها لتطهير صفوفها من مثل هذه العناصر هو الذي يبرئ ساحتها؟ ألا تتذكر قول أمير المؤمنين (ع) الذي يقول فيه: "فحاسب نفسك لنفسك" بمعنى ان مبادرتها لمحاسبة نفسها يعود بالنفع على نفسها أولاً وقبل أي واحد آخر، هذا اذا كانت تبحث عما يصون سمعتها وماء وجهها ويعيد لها اعتبارها عند الناس بعد كل هذه الفضائح.
يجب عليها أن تثبت للرأي العام العراقي انها أحرص حتى من القضاء على حقوق البلاد والعباد، وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي يقول: "ان أفضل الناس عند الله مَن كان العمل بالحق أحب اليه، وان نقصه وكرثه، من الباطل وان جر اليه فائدة وزاده".
أما الناس، فتقع عليهم مسؤولية الرقابة الدقيقة، من دون أن تركن لتدين المسؤول أو ثقافته أو انتماءه، فالعبرة، كما قلنا، بطريقة التعامل مع الموقع، وليس بالدين أو الزي أو التاريخ أو الانتماء، أبداً