* د. عبدالصّمد الدّيالمي
بالمقارنة مع دول إفريقيا السوداء، أوروبا وأمريكا الشمالية، يتميّز العالم العربي بضعف إنتشار داء فقدان المناعة المكتسب (الإيدز/ السيدا). فحسب تقرير للمنظمة العالمية للصحّة عام 1995، "يشكل السودان أكثر الدول إصابة بالوباء في المنطقة العربية/ الإسلامية، متبوعاً في ذلك بجيبوتي والمغرب. ويقدّر عدد مرضى الإيدز بـ1090 في السودان، و649 في جيبوتي، و249 في المغرب، و209 في تونس، و112 في مصر، و112 في قطر، و100 في العربية السعودية. في المجموع تمّ رسمياً تسجيل 3043 حالة من طرف المنظمة العالمية للصحّة، لكن المنظمة تقدر أنّ العدد الحقيقي يتراوح بين 9000 و12000 حالة" عام 1995. أمّا آخر المعطيات فترجع إلى عام 1999، وهي مجمعة في موقع قسم الأُمم المتحدة المكلف بالإيدز (UNAIDS) على شبكة الإنترنت. وهي كالتالي:
- المغرب العربي: المغرب 577 الجزائر 410، تونس541، ليبيا 32، موريتانيا 532 حالة.
- الشرق الأوسط: مصر 235، سوريا 65، لبنان 147، الأردن 71، فلسطين (غير مذكور).
- الخليج: العراق 108، السعودية 414، الكويت 46، قطر 93، الإمارات 22، عمان 367، البحرين 74 حالة.
- الأطراف: السودان 2735، اليمن 156، الصومال 13، جيبوتي 1783 حالة.
رغم التصاعد الذي حدث بين 1995 و1999، تظل نسبة المرض ضعيفة. ويشكل هذا الضعف ظاهرة مثيرة للتساؤل بالنظر إلى توفر شروط الإيدز في العالم العربي: عودة اللاجئين (في حالة فلسطين) والعمال (في حالة الدول المصدرة لليد العاملة نحو أوروبا)، الإنحسار الإقتصادي وإرتفاع نسبة العمل الجنسي في الدول غير النفطية، إستعمال المخدّرات، الإستغلال الجنسي، عدم إنتشار إستعمال الغشاء الواقي. وبالتالي فإن ضعف النسبة العربية يعزى إما إلى عدم تشخيص المرض (نظراً لقلة الإمكانيات التقنية والمادية) وإما إلى عدم التصريح الرسمي بالعدد الحقيقي لإعتبارات قومية (الشرف الوطني) أو دينية (إنكار وجود الإيدز في المجتمعات الإسلامية) أو إقتصادية (عدم تخويف السائح). ويرجع بعض الأساتذة الأطباء في المغرب ضعف إنتشار الوباء إلى التمييز بين نوعين من فيروس فقدان المناعة (HIV): نوع ينتقل عن طريق العلاقات الجنسية بالأساس ونوع ينتقل عن طريق الدم (حقن التخدير مثلاً). ويذهب هؤلاء الأساتذة إلى أنّ نوع الفيروس المنتشر في المغرب هو النوع الذي ينتقل عبر الدم، الشيء الذي يفسر ضعف نسبة الإصابة لأن تناول المخدّرات عبر الحقن ظاهرة لم تبلغ بعد درجة إنتشار تسمح لها بأن تكون نمط الإنتقال الرئيسي.
ورغم ضعف نسبة الإصابة في العالم العربي ورغم التكتم الشديد الذي يحيط بالمرضى، الشيء الذي يجعل من الإيدز ظاهرة غير مرئية وغير حاضرة في الحياة اليومية العربية، فقد اقتنع بعض المسؤولين بالحاجة إلى برامج تربوية وقائية تستهدف التأثير على السلوك الجنسي لتجعل منه سلوكاً واعياً وحذراً. ففي لبنان، تم وضع برامج تربية جنسية تزود السكان بمعلومات حول الإيدز وتوجه رسالة تربوية تشجع في الوقت ذاته على الإستمساك عن الجنس وعلى اتّخاذ قرارات جنسية فردية مسؤولة قبل الزواج. وقد واجه هذا البرنامج مقاومة من طرف رجال الدين وتم حذفه "مخافة على المراهقين من الإنحراف والتشبع بالقيم الغربية" حسب عزّة بيضون. لكن السبب الحقيقي يرجع في الواقع إلى رفض علمنة الحقل الجنسي. ذلك أنّ صياغة برنامج عمومي يعني انفلات الجنس من قبضة المؤسّسات الدينية المختلفة التي تدبّره كشأن خاص لا تتدخّل فيه الدولة، ويعني بالتالي تحوّله إلى شأن مدني عام تدبّره الدولة. بتعبير آخر، يدل تبنّي التربية الجنسية في سلك التعليم العام اللبناني على إرادة علمنة الحقل الجنسي، أي على إرادة إخضاعه لأخلاق مدنية غير طائفية. ومن النتائج الإيجابية لهذه التربية أنّ معظم اللبنانيين باتوا يصرحون بأنّهم يقبلون العيش مع قريب مصاب ويقبلون العناية به ويرون أن من حق المصابين التمتع بكافة حقوقهم المدنية، وعلى رأسها الإستمرار في العمل وعدم التمييز. لكن إيلي أعرج يبيّن أنّ حملات التحسيس الوقائية خارج المؤسّسات التعليمية لم تؤد إلى نتائج مطمئنة حيث أن 20% من الشبان (15-24 سنة) فقط غيّروا سلوكهم الجنسي بسبب خطر الإيدز وأن 23% فقط يقرون بإستعمال الغشاء الواقي الذكري.
وفي فلسطين (الضفة الغربية)، يذهب 66% من الشبان إلى أنّ الإستمساك هو الطريق الأمثل للوقاية. فقط 1% يذكرون الغشاء الذكري. لكن الإيدز أصبح مدخلاً رئيسياً لمناقشة مواضيع الجنسانية في علاقتها بحقوق الإنسان ممّا يؤشر على أزمة إحتكار المجال الديني لتدبير الجنسانية.
في المغرب، يُثار أيضاً إشكال تغيير السلوك الجنسي في اتّجاه الوقاية. وفي المغرب أيضاً، هناك رسالة تربوية مزدوجة تنصح الشباب غير المتزوج بالإستمساك أو بإستعمال الغشاء الذكري. إنّ إرتباط الغشاء الذكري بالجنسانية غير الزواجية، المدنسة في اللاشعور العربي – الإسلامي، يجعله يرث كل الصور السلبية المرتبطة بتلك الجنسانية. وبالتالي يتعرّض الغشاء الذكري لمقاومة ثلاثية في إعتقادنا: فهو موضوع رفض شعبي وموضوع تنديد فقهي – إسلاموي وموضوع توظيف طبي أداتي Instrumentation. بالنسبة للفاعل الجنسي، يتم رفض الغشاء الذكري لأنّه يهدّد فحولة الرجل بالأساس، فهو معيق للإثارة والانتصاب. ومن سلبياته الأخرى غلاؤه وافتضاح صاحبه عند اقتنائه، كما أنّه يخلق الشك بين الشريكين...
وبشكل خجول، يبقى الهمّ الرئيسي في دول المغرب العربي تبنّي المقاربة الثقافية في مكافحة الإيدز. وتكمن هذه المقاربة في تشخيص العوامل الثقافية التي تساهم في إنتشار الوباء من أجل محاربتها، وفي تشخيص العوامل الثقافية التي تساعد على الوقاية من الوباء. إنّ الهدف هو بكل تواضع تأصيل الوقاية فقط.
والحقيقة أنّ موضوع الإيدز يطرح ضرورة مقاربة الجنسانية العربية من خلال تسييد منظور الصحّة الجنسية. ويقتضي هذا المنظور عدم إختزال الصحّة الجنسية إلى محض غياب الأمراض (والوقاية منها)، وغياب العنف (جرائم الشرف)، وغياب الخلل (الإضطراب الإنتصابي). تكمن الصحّة الجنسية أولاً في إرادة معرفة الوضع الجنسي القائم وفي إدراك هذا الوضع كنتيجة تطوّر تاريخي طبيعي (وليس كإنحراف). وتكمن الصحّة الجنسية ثانياً في إقرار الحق في المتعة الجنسية كأحد حقوق الإنسان والعمل على تحقيقه وحمايته من كل الأخطار. وتكمن الصحّة الجنسية ثالثاً في العمل على إقرار تربية جنسية تعمل بالأساس على بناء هويات جنسانية غير متراتبة وعلى بناء الجنسانية كحقل حب وتكامل لا كحقل عنف وسيطرة. من هنا تتحوّل التربية الجنسية، ليس فقط بصفتها علماً وضعياً ولكن بصفتها أخلاقاً إنسانية أيضاً، إلى ضرورة عمومية في المجتمعات العربية بأكملها.
المصدر: كتاب سوسيولوجيا الجنسانية العربية