مصطفى محسن
لقد أصبح الخطاب التربوي المعاصر- ولا سيما في ظل العولمة الزاحفة لأقتصاد السوق، وما كان لذلك من انعكاسات سلبية تمثلت بالأساس، في بعض تأزمات أنظمة التربية والتعليم والتكوين والثقافة في مجتمعات العالم الثالث تحديداً- يولي أهمية كبرى لما أمسى مطروحاً على المؤسسة التربوية (المدرسة والجامعة) من مهام وأدوار اقتصادية بالذات,وذلك لمواجهة هذا المد الكوني الجديد، بأعتبارها المجال الامثل، المنظم رسمياً وعلنياً والموجه محلياً وعالمياً، لأستثمار الرأسمالي البشري، واعداده لرفد الاقتصاد الوطني،وتأهيل المجتمع للتفاعل الايجابي المنتج مع المتغيرات السوسيوثقافية للشباب وللأجيال الصاعدة بشكل عام.
واذا كان هذا التوجه قد ولد في بعض مجتمعاتنا العربية والثالثية ما يمكن وسمه بـ "منظور اقتصادوي" (Economics)، أو حتى بـ "منظور مقاولاتي" (Entreprenariste)، يكاد يحصر وظائف المؤسسة التربوية في دور اقتصادي ضيق محدود: إعداد الكفاءات والقوى البشرية المؤهلة للشغل وأسواق الاقتصاد، دعماً للتنمية الاجتماعية المنشودة، فإن هذا التوجه قد ساهم أيضاً في بروز مد نقدي – كالذي نتبناه في طروحاتنا السوسيولوجية والتربوية – يستهدف تجاوز الرؤية الاختزالية الآنفة للتربية، مؤكداً على تعددية أبعادها ووظائفها التكوينية والثقافية والسياسية والسوسيواقتصادية والحضارية المتكاملة، والمرتبطة بسياق مجتمعي متعين في الزمان والمكان.
ولذا فعلى الرغم من أن النظم التربوية التكوينية في المجتمع المعاصر قد غدت، في الكثير من أسسها ومقوماتها ومهامها، ذات طابع كوني معمم ناظم لكل مجتمعات العالم، مع ما يقوم بينها من اختلاف وتفاوت، فإن التربية، كظاهرة أو كممارسة اجتماعية، قد ظلت وستظل، في توجهاتها وخلفيتها وأساليب اشتغالها، وثيقة الارتباط بسياقها السوسيوثقافي الخاص – بالمعنى السوسيولوجي والانثروبولوجي العام للثقافة – أي انها، كما يفضل البعض توصيفها، تعد بمثابة " تقانة اجتماعية – ثقافية " قائمة على منظومة مبادئ، وقيم، ومعايير، وتصورات ورؤى للذات وللعالم، وأساليب متميزة في تربية وتعليم وتنشئة وتكوين وإعداد الشباب والطاقات البشرية... بناءً على مرجعية سوسيوثقافية وحضارية معينة. ومن هنا ارتبطت التربية، في أطار هذا الفهم الاجتماعي الشمولي، بمفاهيم الخصوصية، والهوية، والمواطن، والمواطنة، وغيرها مما يمكن استحضاره في هذا المقام. كما أصبح أيضاً لمسألة " التربية على المواطنة " أو " التربية المواطنية " مكانة مكانة محورية في الخطاب التربوي المعاصر، والدولة الوطنية الحديثة.