* د. حليم بركات
في ظل المتغيرات العالمية والقومية والمحلية، يتضح لنا تدريجاً أننا كعرب نُواجه فيما يتعلّق بمسألة مهمة تحقيق الإندماج الإجتماعي والسياسي أربع رؤى أو أربعة تصوّرات بديلة للواقع العربي: رؤية تنطلق من مفهوم الانتماءات الخاصّة؛ رؤية توفيقية مهادنة للأنظمة السائدة؛ رؤية دينية أصولية؛ ورؤية قومية علمانية تقدمية.
1- رؤية الإنتماءات الخاصّة:
بين الرؤى التي تزداد رسوخاً في المجتمع العربي ذلك التصوّر الذي ينطلق من مفهوم الإنتماءات الخاصة ذات الأصول التقليدية والمستند إلى مقولات المحافظة على الوضع القائم، باعتبار أن لكل بلد أو قطر عربي خصوصياته وطابعه المتفرّد المتميّز من غيره، كما أن له بالتالي مصالحه وارتباطاته وأوضاعه وحاجاته وتطلعاته وأنظمته الخاصة، فيكون عليه أن يتمسّك بسيادته واستقلاله وحقه بتقرير مصيره بمعزل عن الأقطار العربية الأخرى. بكلام آخر، ترتكز هذه الرؤية على اعتبار الوضع القائم واقعاً شرعياً مستمداً من طبيعة التكون الإجتماعي التعدّدي والاتساع الجغرافي والمصالح المتنافرة للعالم العربي. وقد هدف أصحاب هذه الرؤية منذ مطلع القرن إلى ترسيخ هذا الواقع وإعطائه مزيداً من الشرعية والمناعة الضرورية لاستمراره. وفي ظل العولمة الإقتصادية المتفاقمة في نهاية القرن، لا يرى أصحاب هذه الرؤية من مانع في سلوك حتى تلك المسالك التي تسيء إلى مصالح البلدان العربية الأخرى في خدمة مصالحها الخاصّة. وتظهر النخبة السياسية والنخبة الإقتصادية وبعض النخبة الثقافية تأييدها لمثل هذا التوجّه.
يتشكل أصحاب هذه الرؤية عادة من الطبقات والأُسر الحاكمة والنخب الإقتصادية التي انبثقت في الأصل من التبعية الإقتصادية للغرب، وبعض الجماعات القبلية والعرقية والطائفية التي تختلف مواقعها من حيث مدى الإستفادة من الواقع السائد. وقد ارتبطت هذه الجماعات والطبقات والقبائل بالغرب ارتباطاً عضوياً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. وكان الغرب هو الذي اغتال أحلام ومشاريع الوحدة بتجزئة الوطن وخلق كيانات ودول ورسم حدود مصطنعة كما يتجلّى ذلك في معاهدة سايكس – بيكو (Sykes-picot) ممّا ساعد أيضاً وبدوره على خلق إسرائيل على أنّها جزء طبيعي من فسيفسائية الشرق الأوسط. ولا يزال هذا الغرب مشغولاً بمهمة إعادة رسم خرائط البُلدان والشعوب، ويعمل على مشاريع التقسيم ومقاومة الوحدة.
وعلى صعيد خارجي يتمثّل هذا التصوّر بالإمبريالية الغربية (الأوروبية أولاً وحتى الستينيات، ثمّ الأمريكية منذ منتصف القرن). وقد ساعد اكتشاف النفط في استفحال الامبريالية وتمسكها بمهمة تثبيت التجزئة العربية بمختلف الوسائل. وعلى صعيد الواقع الإقليمي والمحلي، يتمثل هذا التصور خاصة بالصهيونية والاتجاهات الطائفية والقبلية المرتبطة بالغرب، والملتزمة بإقامة وتثبيت كيانات وأنظمة تؤمّن بنيوياً تفوق فئة واحدة أو قلة من الفئات في مختلف المجالات على حساب الفئات الأخرى. في الوقت الذي اصطُنعت كيانات عربية تحكمها قبائل وعائلات وطوائف، أُقيمت إسرائيل، الأمر الذي كان يمكن أن يتم فقط بتشريد الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه وإلغاء التعدّدية التي كانت تمتاز فيها فلسطين في مختلف العهود قبل وخلال ظهور اليهودية، التي استمدت الكثير من معتقداتها وقيمها وطقوسها من الديانات السابقة لها في المنطقة.
أقامت الصهيونية إسرائيل بمساعدة غربية، وجعلتها قاعدة عسكرية ونموذجاً في المنطقة. وقد أنشئت كقاعدة وامتداد للاستعمار الغربي ففرضت نفسها وتوسّعت بالحروب، وهدّدت أي نشاط وحدوي تحرّري في المنطقة كلها بحجة أنه يشكّل تهديداً لأمن إسرائيل والمصالح الغربية. وبين الأسباب التي جعلت الغرب يعمل على خلق إسرائيل والاستمرار في دعمها دون تحفظ أنها قاعدة ضد الوحدة القومية والتحرّر العربي. إن أي نهوض عربي في نظر الغرب، كما في نظر إسرائيل، يشكّل تهديداً لمصالحه وهيمنته على الموارد العربية وفي طليعتها النفط. لذلك أصبح من الضروري للغرب ولإسرائيل أن يظل المجتمع العربي متخلِّفاً ضعيفاً منقسماً على نفسه ومنشغلاً بخلافاته الجزئية.
أما كنموذج، فقد عملت إسرائيل كما عمل الغرب، على خلق أوضاع تشجّع أو تضطر بعض العائلات الحاكمة والقبائل والطوائف والأقليات على إقامة أو ترسيخ كياناتها ومصالحها الخاصة على حساب المجتمع والوطن والأُمّة. بل هي، وبشكل غير مباشر على الأقل، شجّعت في الأصل التيار الديني الأصولي، الأمر الذي شجع التيارات الطائفية بدوره، كردة فعل، فاستوحي بعضها التجربة الصهيونية، واقتدى بها، وعمد إلى استعمال أدواتها وأساليبها.
وقد عمدت الدراسات الصهيونية، كما عمدت الدراسات الإستشراقية، إلى التشكيك في وجود هوية أو قومية عربية أو إقليمية خارج ما هو قائم، وصوّرتها على أنّها أوهام وخرافات وأحلام لا صلة لها بالواقع. وفي الوقت الذي استفضنا في مناقشة الدراسات الإستشراقية، وخير من فعل ذلك سعيد في كتابه الإستشراق، أهملنا الدراسات الصهيونية. ولمجرد الاطلاع على عدد من مقولات الصهيونية في هذا المجال نشير باختصار إلى أمثلة قليلة من هذه الدراسات.
حرّر مناحم ميلسون (أستاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية وحاكم الضفة الغربية مدة من الزمن) كتاباً حول المجتمع والبنية السياسية في العالم العربي صوّر في المنطقة على أنها أوطان لجماعات طائفية وعرقية تعيش في حالة نزاع أو عزلة بعضها عن بعض، ولا تعترف بسلطة خارج سلطتها الذاتية، وتنعدم فيها مشاعر التعاطف مع الوطن القطري أو القومي. بين دراسات هذا الكتاب مقالة حول التمايز والاستقطاب الطائفيين داخل سورية لموشيه معوز، الذي يُعتبر خبيراً بالشؤون السورية. تشدّد هذه الدراسة على سيطرة المنازعات والمنافسات لمئات من السنين بين الأقليات الدينية، وتستنتج أن "كل المسلمين كانوا منافسين للمسيحيين وكل المسلمين والمسيحين كانوا ضد اليهود".
بين مقولات ميلسون وغيره من المساهمين في هذا الكتاب أن هناك موقفاً من "القوة والحكم عميق الجذور في التقليد الإسلامي، يميل إلى عدم تشجيع مقاومة الحكومة القائمة بصرف النظر عن كيفية وصولها إلى الحكم. إن مجرد امتلاك قوة إكراهية يشكّل مصدراً للشرعية السياسية". وانطلاقاً من هذه المقولة التبسيطية التشويهية للإسلام، يستخرج مقولة أخرى أكثر تبسيطاً وتشويهاً تعتبر أن السياسة العربية المعاصرة تتجاذبها قوتان مستمدتان من التقاليد الإسلامية: قوة رسولية ذات إطار نظري ألفيّ (Millenarian) يتم التشديد فيه على الوحدة والمجد العربيين، وقوة الخضوع لأحكام الضرورة.
واستعان مارتن كريمر، الذي عمل مديراً مشاركاً في مركز موشيه دايان للدراسات الشرق الأوسطية في جامعة تل أبيب، خاصة بمقولات فؤاد عجمي حول "نهاية القومية العربية" ليكتب بدوره مقالة بعنوان "القومية العربية: هوية خاطئة" أكّد فيها "أن العديد من العرب تخلّوا عن إيمانهم بالأمة العربية... وأولئك الذين جرفهم حديثاً النشاط الإسلامي يفضّلون ان يفكّروا بأنفسهم قبل كل شيء كمسلمين، ويفعلون ذلك دون اعتذار... ويفضّل العرب الآخرون ببساطة أن يُعرَفوا كمصريين وسوريين وأردنيين ومغاربة – أي كمواطنين في ما يزيد على عشرين دولة مستقلة، لكلّ أعلامها ومصالحها الخاصة. وبعضهم اعتادوا الإشارة إلى أنفسهم كشرق أوسطيين، متوقعين قيام سلم عربي – إسرائيلي ونظام تعاون إقليمي جديد شبيه بالنموذج الأوروبي".
تلك هي ببساطة قصة القومية العربية في رأي كريمر، ويستغرب "كيف ان ملايين من الناس تخيّلوا أنفسهم على أنهم عرب ومن ثم عاشوا: كما لو في حالة هوية خاطئة، مدعين أنهم كانوا طيلة هذا الوقت شخصية أخرى غير شخصيتهم المحلية الحقيقية".
لم يكن هذا تصوّر الأدبيات الصهيونية فقط بعد حرب 1967 وحرب الخليج الثانية عام 1991، بل كان هذا موقفها منذ بدء الصراع العربي – الإسرائيلي. ومن الأمثلة على نوع الممارسات التي استمدتها إسرائيل من هذه النظرية ما جاء في مذكرات موشيه شاريت حول رغبة بن غوريون في، "دفع لبنان، أي الموازنة في هذا البلد، أن يعلنوا دولة مسيحية... وعندما يحدث هذا سيجري تحول حاسم في الشرق الأوسط، وسيبدأ عهد جديد... من الواضح أن لبنان هو الحلقة الأضعف في جامعة الدول العربية... لذلك تكون مهمة خلق دولة مسيحية عملية طبيعية... ولكن ذلك سيكون شبه مستحيل في الأوقات العادية بسبب غياب المبادرة والشجاعة لدى المسيحين. غير أن في أوقات الفوضى، أو الثورة والحرب الأهلية، تأخذ الأمور بعداً آخر، حين يصبح بإمكان حتى الضعيف أن يعلن نفسه بطلاً. ربما يكون هذا هو الوقت المناسب لخلق دولة مسيحية إلى جوارنا. بدون مبادرتنا ومساعدتنا الناشطة لن يتم ذلك". ولذلك نتساءل، دون أن نقلّل من أهمية الخلافات الداخلية وهي خلافات موجودة وحقيقية، ماذا كان دور إسرائيل في الحرب الأهلية في لبنان؟
في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية واحتلال إسرائيل جنوب لبنان، اكتشف مراسل صحيفة الواشنطن بوست، جوناثان راندول، من خلال حديثه مع رهبان جامعة الكسليك في لبنان وجود علاقة مع الإسرائيليين تعود إلى زمن طويل، وهي، كما يقول، علاقة بين اتجاهين يؤمنان بنظرية "الدول الفسيفسائية". وقد شرح إسرائيلي متخصص بالشؤون العربية لهذا الصحافي هذه النظرية بقوله، "فقط عندما تريد إسرائيل مالاً من اليهود الأميركان نقول نحن الإسرائيليين: إن سائر العالم العربي موحَّد في رغبته ومصمّم على أن يرمي بنا إلى البحر. في الواقع إن الشرق الأوسط هو مجموعة من الشعوب والثقافات. حكومتان أقليتان تديران سورية والعلاق. الملك حسين وجماعته من البدو أقلية في الأردن، يفوقهم الفلسطينيون عدداً. ولدى السودان أقلية من عبدة الأرواح والمسيحيين. وفي الجزائر والمغرب أقليتان كبيرتان من البربر. إذا نجحت إسرائيل في الإتصال بجميع هذه الأقليات التي تقاوم العروبة والإسلام، فإنّها عندئذ تستطيع أن تمزّق العالم الإسلامي".
مع أن هذه الأقليات قد تكون غير مستعدة للتعامل مع إسرائيل في الأحوال العادية، فإن الإتصالات تمّت فعلاً بين بعض هذه الأقليات وإسرائيل في أثناء اضطرابات [هذا ما فعله الثوار الأكراد في العراق، والمتمردون في جنوب السودان، والقوات اللبنانية، وربما غيرها]. من هذا القبيل نستطيع أن نفهم احذيرات بيار الجميل المتكرّرة منذ الخمسينات من أن جماعته مستعدة "للتعاون مع الشيطان عند الاقتضاء"، كما فعل في عام 1954 حين حذر اللجنة التحضيرية للمؤتمر الإسلامي العام في لبنان التي تقدّمت ببعض المطالب الإصلاحية بقوله، "مستعدون عند الاقتضاء، للتعاون مع الشيطان نفسه في سبيل تحطيم أطماع الطماعين وإحباط مؤامرات المتآمرين والمحافظة على لبنان واحة حرّيات ومدنية في هذا الشرق الشديد الافتقار إلى واحة كهذه الواحة". وقد تمّ هذا التحذير في زمن عادي طُرح فيه مجرد المطالبة بإصلاحات طفيفة.
وقد أضاف بيار الجميل في ذلك الوقت، أي قبل 28 عاماً من الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982، "لنفترض أن الصراع الطائفي... أسفر عن تغلب جبهة إسلامية على جبهة مسيحية... فهل يحسب المريدون بالمسيحين بغياً وطغياناً أن أولئك المسيحيين سينامون على ضيم... ولا يثيرونها مقاومة صاخبة، لاهبة تتيح للأجنبي أن يدخل من الأبواب والنوافذ، وأن يستتبع دخوله ما يألم له لبنان نفسه والبلدان العربية جميعها".
ماذا تعني إذن مسألة الإندماج الإجتماعي السياسي لأصحاب رؤية الإنتماءات الخاصة هؤلاء؟ ليسوا هم من يعنون بمهمة قيام وعي حديث وتصوّر يقوم على الولاء للوطن والمجتمع أو الأمّة عن طريق تجاوز الولاءات التقليدية. إنّهم يدعون إلى التعايش والاستقرار ليس عن طريق العمل في سبيل الاندماج الإجتماعي والسياسي، بل بالإعتماد على إدارة الصراعات (Conflict Management) كما يتضح من الدراسات التي تبحث في طبيعة وسائل احتواء المنازعات في المجتمعات التعددية، صارفة النظر عن الإندماج أو تحول الإنتماءات الخاصة الضيقة إلى إنتماءات عامّة واسعة.
وفي ما يتعلّق بموضوعنا الأساسي، نجد أن أصحاب هذه الرؤية غير معنيين أساساً بمسألة الإندماج الإجتماعي والسياسي. إن شأنهم الأساسي هو المحافظة على مكاسبهم مجماعة متميزة داخل الوطن. بكلام آخر، هم معنيون بشؤون جماعاتهم ومواقعها، وليس بشأن بناء وطن ومجتمع أو أُمّة. إنّهم تعبير عن غياب الوعي الوطني والقومي في أواسط أصحاب هذه الرؤية الضيقة. ولذلك ليس لهم ما يقدّمونه في تعزيز مهمات الإندماج الإجتماعي والسياسي. على العكس من ذلك تماماً، إنّهم يشكّلون عوائق تمنع ذلك.
2- الرؤية التوفيقية المهادنة للأنظمة السائدة:
بعد سلسلة من الهزائم العربية المتلاحقة في إثر حرب 1967، وانهيار الإتحاد السوفياتي، وحربيّ الخليج، وقيام النظام العالمي الواحد، وعولمة الإقتصاد وإخضاعه للسوق الحر، والخصخصة والثورة الإعلامية في عصر ما بعد الحداثة، نشأ تيار مهادن يشدّد على مقولات الإعتدال والواقعية والمساومة والتعاون في البحث عن حلول سليمة للمشكلات المستعصية. وقد تجلت هذه النزعة خاصة في التعامل مع الأنظمة العربية الاقائمة وتقبل الهيمنة الأمريكية وفي الإعتراف بإسرائيل والبحث عن حلول سليمة للمشكلة العربية – الإسرائيلية من موقع الضعف والإقرار – بأسبقية القطرية على القومية في ل الأوضاع القائمة.
وإنّني أشير في تحديد طبيعة هذه الرؤية بشكل خاص إلى مثل هذه القناعات التي توصّل إليها بعض القوميين والتقدميين الثوريين السابقين. في هذا السياق، ولمجرد تقديم أمثلة حسية في وصف هذه الرؤية، أستغرض سلسلة من المقالات نشرها لطفي الخولي في صحيفتي الأهرام والحياة. بين آخر ما كتب قبل وفاته مقالة تدور حول ما سمّاه "سؤال الوقت: العرب للعرب أو العرب أعداء العرب؟" يبدأ بنقد الأسس الفكرية والبنيوية للأيديولوجيا العربية السائدة وتجاربها المختلفة، ثمّ ينبّه إلى عاصفة من المتغيّرات التي نواججها في التسعينيات من القرن العشرين فنتج من ذلك قيام عالم مختلف عمّا ألّفناه بمعطياته وأوضاعه.
3- الرؤية الدينية الأصولية:
نكتفي هنا بالإشارة إلى هذه الحركة كصاحبة رؤية خاصّة للهوية وموقف متميّز من حيث مسألة الإندماج الإجتماعي والسياسي. طرحت نفسها في الربع الأخير من القرن العشرين كبديل من الحركات القومية العلمانية التي فشلت في تحقيق مشاريعها وقادت العرب إلى سلسلة من الإنهزامات المحبطة التي لم نتمكن حتى الآن من الخروج منها وتجاوزها والتحرّر من آثارها المضنية. والطريف في الأمر أنّ الحركات القومية العلمانية كانت في مطلع القرن قد طرحت نفسها وقامت بدورها كبديل للحركات الدينية المتمثلة بالخلاف الإسلامية العثمانية التي انهارت في نهاية الحرب العالمية الأولى.
وكما حاولت الحركات القومية العلمانية بطريقتها الخاصّة أن تملأ الفراغ الذي أحدثه انهزام العثمانية، كذلك تحاول الحركات الدينية في نهاية القرن، وإثر تجارب مريرة، أن تملأ الفراغ الذي أحدثه فشل الحركات القومية العلمانية. بذلك يبدو كأنّنا ندور حول أنفسنا في حلقة مفرغة بدلاً من أن ننطلق باتجاه آفاق جديدة نكتشف من خلالها معالم حداثة متفردة خاصّة بنا كمجتمع وثقافة لهما طابعهما المتميّز، كما لهما مصالح تتناقض مع المصالح الغربية.
وبدلاً من أن نكتشف أو نصنع حداثتنا الخاصّة باستقلال عن الغرب، نجد أنّنا نستيقظ كأهل الكهف لنجد أنفسنا ليس في عالم ومن متقدمين بل في ماضٍ سيحق في القدم نظن أنّنا ننتمي إليه ليجدنا هو غرباء عنه بقدر ما نجده غريباً عنا لكونه ينبثق من واقع آخر غير الواقع الذي نعمل من ضمنه. وقد حدثت نتيجة لذلك انقسامات جديدة حادة لا تقتصر على ما سمّاه عادل حسين "الإنقسام الحاد بين أصحاب الثقافة الإسلامية من جانب وأصحاب الثقافة الغربية من جانب آخر". بين أكثر الإنقسامات حدة تلك التي تقوم بين الجماعات الدينية نفسها مجتمعة ومتفرقة والأنظمة السائدة، وبينها وبين مسلمين متنورين ينطلقون من موقع قومي علماني، وبينها وبين الجماعات غير المسلمة، وبينها وبين أنصار المرأة. ثمّ إنّ هذه الحركة ليست ذات بُعد واحد بل تتفاوت في ما بينها، ومن بلد إلى آخر، من حيث الإعتدال ومدى إستعدادها لإستعمال العنف.
ليس خطأ حركات الصحوة الإسلامية أنّها تعمل بإستقلال عن الحضارة الغربية وتؤكِّد هويتها الحضارية الخاصّة. إن خطأها الأساسي يتلخّص بكونها ردة فعل على التحدي الغربي فتعمل على فرض نموذج مستعار من الماضي السحيق على الواقع المعاصر المغاير في بنيته وأوضاعه ومتطلباته ومصادر مشكلاته عن واقع الأمس البعيد. وممّا يزيد من تعقيدات الأمور، الإختلاف الكبير في فهم نموذج الماضي القابل للكثير من التفسيرات والتأويلات المختلفة، بل المتناقضة في كثير من الأحيان والأحوال.
ترى غالبية اتّجاهات الصحوة الإسلامية الحريصة على التمسك بالتُراث والتقاليد أن الإبداع انطلاقاً من الواقع المعاصر كفر، وتعلن وصايتها على النموذج السلفي كما تفهمه رافضة أي تفسير أو إجتهاد آخر. لذلك يحذّر إسلاميون آخرون، مثل عادل حسين، فيقولون إنّ الإبداع ضرورة قصوى لقيام أيّة نهضة حقيقة، ويقول حسين: "وإذا خمدت القدرة على الإبداع المستقل يكون الحديث عن نهضة الأُمّة وتنميتها المستقلّة لغواً. إنّ الإبداع مطلوب في المجالات كافة". من هذا المنطلق لا تختلف دعوة استيراد النماذج الغربية جاهزة عن الدعوة السلفية لإستعادة مجتمع الخلفاء الراشدين كنموذج شامل كلي تفرضه قسراً منتزَعاً من سياقه التاريخي والإجتماعي. كلاهما – المشروع الغربي والمشروع السلفي – تقليد لا علاقة بالإبداع المستقل انطلاقاً من الواقع المعاصر.
تنسى غالبية الحركات الإسلامية أنّ الشعب يقبل عليها في تلك الحالات التي تعاني فيها الأُمّة أزمة غياب المجتمع المدني، وتنعدم لديها وسائل التعبئة بسبب هيمنة السلطة والحاكم. وهي حين تقبل الجماهير عليها إنّما تفعل ذلك لأنّها ترغب في إزاحة القوى المهيمنة على مصيرها، فيكون من الخطأ الجسيم أن تعتبر الحركات الإسلامية أن الشعب يسعي إلى إستبدال هيمنة قومية بهيمنة دينية من نوع آخر. ما يحدث فعلاً هو أنّ الحركات الإسلامية تحوِّل الدِّين إلى عقيدة سياسية، وأنّ هذه العقيدة قد تضطر بالممارسة إلى أن تفرغ ذاتها من المضمون الروحي. وليس هذا ما قد يحدث في المستقبل بحسب، فقد سبق أن حدث فعلاً في تعاقب السلطات منذ العصر الأموي على الأقل. وليس من الغريب إذن أن تنشأ تيارات وقوى علمانية في التاريخ الإسلامي بشكل من الأشكال، وإن لم تتّخذ هذه التسمية بالذات، وذلك قبل الإتِّصال بالغرب وبعده.
4- الرؤية القومية التقدّمية:
لم تنجح الحركات القومية والتقدّمية في تحقيق الوحدة وتثوير المجتمع، ولكن الفشل لا يقود بالضرورة إلى الاضمحلال، وإن كانت هي بالذات مسؤولة إلى حد بعيد عن فشلها لما تعانيه من ضعف في صلب كياناتها وتوجهاتها منهج تعاملها مع التحدّيات التاريخية. ولكن الحركات التي تحاول ملء الفراغ لم تستفد من التجارب السابقة ولا تقدّم نظرة جديدة تمكّننا من تجاوز الواقع الراهن، وقد يكون الفشل القادم أكثر دماراً ومأساوية.
ما شهدناه من أحداث في ثلث الأخير من القرن العشرين يمكن اعتباره هزيمة وكسوفاً، وليس نهاية للحركات القومية والتقدّمية. بل من الخطأ الإفتراض أن هذه الحركات لم تعد قادرة على التحوّل بإعادة النظر وتبنّي منطقات أكثر وعياً وفعاليّة فتجدّد نفسها كطائر "الفينيق" الذي يستعيد شبابه كلّما تقدّم به العمر بإحراق نفسه لينبثق من رماده في ولادة جديد ساطعة ومذهلة. وقد راود هذا الحلم مخيلة العربية حتى في عصر انتشائه، فكتب أدونيس في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين:
أحلمُ أن في يديّ جمرةً
آتيةً على جناح طائرِ
من أفقٍ مغامرِ
.. يُقال فيه طائرٌ مولّهٌ بموتهِ
وقيل باسم غدهِ الجديد باسم بعثهِ يحترقُ
والشمس من رمادِه والأفقُ.
وفي ذلك الزمن نفسه قال شاعر عربي آخر هو بدر شاكر السياب في قصيدة "النهر والموت" من ديوان أنشوة المطر:
أودُ لو غرقتُ في دمي إلى القرار،
لأحملَ العبء مع البشرْ
وأبعثَ الحياة. إن موتيّ انتصار
لستُ أدري إذا كان أدونيس يوافق أن حلمه قد يصبح حلماً عربياً، ولا أعرف ما قد يكون شعور بدر شاكر السياب الذي لم يكن موته انتصاراً. ولا أستبعد أن ينظر البعض إلى الشعر على أنّه كبقية الإبداعات التعبيرية من صنع الخيال، ولكنني أراه تعبيراً عن واقع الإنسان وسعيه الدائم إلى تجاوز أوضاعه. وإذا ما تأملنا في الواقع العربي منذ منتصف القرن إلى نهايته، نجد أنّ الحركات القومية والتقدّمية لا تزال مطالبة كما تُطالب نفسها بإعادة النظر والتجدّد، مستفيدة من تجاربها السابقة. لا يزال هناك في نهاية القرن العشرين بذور تصوّر قومي يقول بإمكانية حصول تحوّل ثوري في داخله كما في النظام السائد. ليس التاريخ مغلقاً وثابتاً، بل هو متحوِّل ومنفتح على مختلف الإحتمالات، وقد نفاجأ بتجدّد الحياة. وكي نفاجأ لابدّ أن تكون هناك حركات تملك ثقة بنفسها ومجتمعها فتعمل وسط التشاؤم في سبيل التجدّد.
إنّ رؤية الحركات القومية الجديدة لم تكتمل بعدُ، وربّما لم تبدأ بعدُ، بل لا يزال بعضها متعثراً بتراثه الفكري فيبدو كأنّه يريد أن يتحرّر منه دون أن يتمكّن من ذلك في الوقت ذاته. ومع هذا ما زالت هذه الرؤية تطمح إلى تحقيق الوحدة، وإن كانت وحدة من نوع آخر في أساليب عملها وأهدافها البعيدة المدى وتركيزها على الإنسان. إنّها تزداد قناعة في زمن التفتيت بضرورة التوحّد وبأهميته فتعمل تدريجياً باتّجاه بدء تحقيق الإندماج الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، والمشاركة الديمُقراطية وتنشيط المجتمع المدني، وتأمين حقوق الإنسان، ومساواة المرأة، والأقلّيات وإحترام التعدّدية، وإقامة العدالة الإجتماعية، والتنمية المستقلة الشاملة، وبل التغيير التجاوزي الذي سأتناوله في الفصل الأخير وأحدّد بعض معالمه هنا فقط من حيث دوره في تحقيق الإندماج. بكلام آخر، إنّها مطالبة بأن تتكوّن لها قناعة مخالفة للقناعات التي ساهمت في فشلها.
ينطلق هذا التصوّر من تحليل خاص لطبيعة المشكلات الأساسية التي يعانيها المجتمع العربي والتي كانت ولا تزال بين أهم أسباب فشله في تحقيق أهدافه. وفي طليعة هذه المشكلات التجزئة القومية، والفقر، وتزايد الفجوات بين الطبقات والجماعات والأقطار، والسلطوية الإجتماعية والسياسية والثقافية كما تتجلّى في العلاقات الإجتماعية، وفي العائلة والمؤسِّسات والأحزاب والأنظمة القائمة، وحالة الإغتراب التي تحيل الإنسان إلى كائن عاجز مغلوب على أمره، والتخلّف الحضاري الشامل مقترناً بالتخلّف الإقتصادي والتقني، والتبعية أو الهيمنة الغربية وغيرها من المشكلات المتداخلة، التي تحيل في مجملها المجتمع العربي إلى مجتمع هشّ لا يبدو قادراً في ظلّ الأوضاع الحالية على مواجهة التحديات التاريخية والدفاع عن حقوقه وتنمية إمكانياته الإنسانية والمادية.
في صميم هذا التصوّر دعوة إلى قيام حركات قومية تقدّمية تبدأ بالعمل باتّجاه تحوّل المجتمع العربي تحوّلاً جذرياً من مجتمع مفكّك، شبه إقطاعي، شبه برجوازي، شبه مستقل، مهيمن عليه من الداخل والخارج، سلطوي في ثقافته ومؤسساته السائدة، طبقي في بنيته الإجتماعية، غيبي في تحليله لأوضاعه، متخلّف، غني في موارده ومواقعه الجغرافية والتاريخية، إلى مجتمع موحّد في تنوّعه، قومي في إنتمائه، متمسّك بهويته ومتحرّر متسامح تقدمي ديمقراطي في آن معاً، مستقبلي حديث في تطلعاته، علماني يحترم مختلف الإنتماءات الدينية ويتمنى عليها عدم الإكراه، عادل في توزيع ثرواته. الحلم هذا – مهما قيل فيه ومهما كان الخلاف حول معناه ومضامينه وتطلّعاته ومصادره وواقعيته وإحتمالات تحقيقه في المدى البعيد، هو رفض الهزيل الذي نعيشه.
أضع المشكلة بهذا الكلام وهذه الصيغة ليس من قبيل التعجيز أو من موقع منتقد يقصد التشويه والتيئيس، بل من أجل تأكيد صعوبة المهمّات التاريخية التي بواجهها العرب، ولابدّ لهم من مواجهتها. لذلك يكون من الضروري أن نتوقّف لنسأل بكل جدّية: هل يمكن للإنسان العاقل أن يكون واقعياً وأن يحلم مثل هذا الحلم الكبير؟ كيف يمكن أن نحقّق هذه الأهداف الكبرى وأوضاع المجتمع هي ما عليه وكما وصفناها؟ هل ينبثق هذا الحلم والتصوّر المرتكز إليه من تفكير مثالي رومنطيقي، أم ينتج من ثقة بشعب ذي تاريخ طويل وحافل بالصراع، يرفض الخضوع للأمر الواقع والقبول بهامشيته وبالظلم الذي يلحق به، ويُظهر استعداداً للتعلّم من أخطائه فيتكوّن له وعيٌ جديد يفرض عليه مهمّات الإبقاء على شعلة التحوّل في ليل عربي مدلهم؟
أن يكون للحركات الوطنية العربية التقدّمية مثل هذا الحلم وهذه الرؤية المستقبلية في مواجهة هذه الأوضاع الهزيلة لا يعني بالضرورة أنّها حركات مثالية رومنطيقية تتمسّك بقناعاتها بمعزل عن المعطيات والأوضاع السائدة. في الواقع إنّ القبول بالوضع السائد الهش اللاإنساني هو بالضرورة نتيجة لنزعة استسلامية يائسة محبطَة تقول باستحالة تجاوز الواقع وتحويله. وكما أنّه يمكن أن نستخلص أنّ القناعة بضرورة تحوّل المجتمع تحوّلاً جذرياً قد لا تشكّل بحد ذاتها نزعة مثالية رومنطيقية واهمة، كذلك يمكن أن نستخلص أنّ القناعة المعاكسة بضورة قبول الأمر الواقع لعدم وجود خيارات هي أيضاً لا تشكّل من ناحية أخرى، وبحد ذاتها، نزعة واقعية عقلانية.
ومع هذا، لا يجوز أن تستخفّ الحركات القومية التقدّمية بالإنتقادات الصادقة التي توجّه إليها. وهي أثبتت في الواقع الكثير من المثالية ليس بسبب الحلم أو الرؤية المستقبلية أو الطموحات التي تحملها، بل بسبب تردّدها في إعادة تحديد مفاهيمها، وعدم التركيز حتى الآن على مهمة وضع إستراتيجيا تكفل تحقيق الحلم والرؤية. إنّ الفكر الإستسلامي المحبَط، لا الفكر الواقعي المعتدل، هو الذي أوصل الأنظمة الحالية إلى القبول بالأمر الواقع والتأقلم معه. وللخروج من هذا المأزق التاريخي يكون على الحركات القومية التقدّمية أن تعيد تحديد هويتها ومنطلقاتها، وأن تعمل على وضع إستراتيجيا تستند إلى تحليل دقيق للواقع، وتربط بين المسبّبات والنتائج فتستنبط الوسائل الفعّالة وتتبيّن المراحل الضرورية في عملية تحقيق الرؤية المستقبلية. وفي كل ذلك يجب أن تحتفظ بالجرأة على تصحيح أخطائها.
إنّ الحديث عن العمل الإستراتيجي يؤشر إلى ضرورة قيام منهج واقعي يتطلّب منّا تحليل الواقع العربي تحليلاً عملياً شاملاً. وهذا ما سنحاول الخوض فيه في الأقسام اللاحقة من هذا الكتاب، ممّا يزيد من قناعتنا بأن تجاوز الهوة بين الحلم والواقع غاية بعيدة المدى تقتضي إستمرار المواجهة وإبقاء شعلة الكفاح مُضيئة. ويبقى أن تستمر الحركات الوطنية العربية بالعمل في مهمة تعميق وعيها عن طريق النقد الذاتي الدائم. وبين ما يجب أن تعيه جيِّداً طبيعة معوّقات الإندماج الإجتماعي والسياسي. إنّ التفسخ الإجتماعي مستمر بإستمرار الوعي التقليدي الذي لابدّ من تجاوزه. وبقدر ما تشكّل الحركات الوطنية العربية التقدّمية البديل للوعي التقليدي في السعي إلى تحقيق الإندماج الإجتماعي والسياسي، يكون من مهمّاتها أن تحرّر نفسها هي أيضاً من رواسب الوعي الراسخ في المجتمع والثقافة وأن تعيد تحديد طبيعة رؤيتها.
بعد أن خبرت الحركات الوطنية العربية التقدّمية تجارب قاسية وفشلت في تحقيق أهدافها، يُنتظر منها أن تصبح أكثر ميلاً إلى إعادة النظر بالكثير من المفاهيم التي نشأت عليها، بما فيها تلك التي كانت تحدّد سلوكها مواقفها في السابق ولا تزال تفعل ذلك، خاصّة في بعض المجالات. إنّ مهمّات الإندماج الإجتماعي والسياسي تقتضي أن تستبدل مفاهيمها السابقة بمفاهيم جديدة لم تكن تعتبرها من صلب عقيدتها وفي أساس سلوكها وتعاملها مع المنتمين إليها ومع الحركات الإجتماعية والسياسية الأخرى.
المصدر: كتاب المجتمع العربي المعاصر (بحث في تغيّر الأحوال والعلاقات