د.إبراهيم عبدالله غلوم
الثقافة بوصفها إعلاماً هي السياسة التي ظلت في مجتمعنا تختزل هوة أكبر من مجرد الثغرة، وتشكل بذلك نمطاً ثقافياً سائداً في السياسات الإعلامية لدول الخليج تستند فلسفته على أن الإعلام هو أول خطوط الدفاع عن الثقافة السائدة أو السلطة المركزية. وهذا تصور دقيق وموضوعي، ولكن من زاوية المفهوم الذي يضع المسافات الشاسعة بين ثقافة وأخرى.
وقد لا يستطيع أحد أن ينفي بأن آلة الإعلام ووسائلها وتقنياتها الحديثة تمثل ثقافة مستقلة بحد ذاتها، إنها إنتاج ثقافي يتطور مع تطور المعرفة من أجل الوصول إلى كيفية أرقى وأجمل في التواصل والتعاون، لكن المشكلة ليس في كون الإعلام شكلاً معرفياً جديداً تدفعه تطورات مذهلة.. وإنما المشكلة في ن الإعلام في مجتمعات الخليج لم ينفك عن القيام بمهمة توسيع رقعة المسافة بين الثقافة والثقافة الأخرى موازية أو هامشية أو معزولة. وهنا لابد من السؤال: كيف تتباعد المسافة وتنقلب القاعدة الثقافية/ المعرفية للإعلام إلى قاعدة ثقافية للتهميش والتبعية والتأثيم؟
وللإجابة على ذلك يمكن تأمل التطور المتسارع الذي شهدته الظاهرة الإعلامية في مجتمعاتنا.. فقبل الستينات لم يكن مفهوم الدولة للإعلام حاضراً بسبب غياب مفهوم الدولة في التبعية المباشرة المتحققة على ذات الأرض التي تقف عليها – الاستعمار – ولكن حين تغير نمط التبعية، وأصبحنا أمام مجموعة من الاستقلالات الوطنية بدأت الظاهرة الإعلامية في الظهور والتطور، وتأسست الإذاعات وقنوات التلفزيون، كما تطورت الصحافة في سياق هذا التحول.
لقد بدأ تطور الإعلام في مجتمعاتنا من أجل استكمال الصورة الحديثة للدولة، لكنه مع بداية السبعينات بدأ يكتسب صفة شمولية، مستفيداً من الإعلام في الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية. ولذا كانت استراتيجيته قائمة على تكريس ثقافة في طريقها إلى الاستقلال بالسيادة. وكان من الطبيعي أن ينشغل التكريس بقيم الولاء والوطنية. ومع تطور اقتصاد السوق، وتطور استثمارات العائد النفطي تهيأت الظروف المواتية لخلق ثقافة استهلاكية يتقاسمها شريكان: السياسة والاقتصاد (السلطة السياسية ومؤسسات السوق المفتوح) وكانت الصيغة الثقافية التي ترجمت هذه الشراكة تتمثل في الظاهرة الإعلامية بمؤسساتها المعروفة (الإذاعة، التلفزيون، صحافة، الإعلان) وقد تبلورت هذه بشكل رسمي في ظهور وزارات الإعلام.
وإذن فقد تداخلت الظاهرة الإعلامية مع ثقافة السلطة وثقافة السوق. ولعلها تضافرت أيضاً في تكوين البعد الثقافي للدولة بوصفها ثقافة تصون صيغة التحالف والتداخل، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن صياغة هذا التحالف تمت عبر الحماية المستمرة من اختراقات ثقافة متوازية مكنونة في التربية والتعليم والتنشئة، والفكر والإبداع والمؤسسات الثقافية الأهلية. بل إننا الآن نرث العلاقة المضطر به بين الإعلام والتربية وبين الإعلام والعمل التطوعي الأهلي. وهو الاضطراب الحتمي الناشئ من عمق المسافة بين ثقافة وثقافة.
وفي تأمل الثغرة الثقافية في الإعلام تداعيات لا حصر لها، يمكن أن تأخذنا إلى تفاصيل صغيرة ولكنها ذات دلالة على بعد المسافة التي نتحدث عنها. وذات دلالة على غربة الثقافة في استراتيجية الإعلام. والأمثلة على ذلك تملأ الواقع الثقافي في السنوات العشر الأخيرة التي انتقل الإعلام الرسمي فيها إلى مرحلة القنوات الفضائية. فللوهلة الأولى يوهم البث الفضائي المفتوح بسدّ الكثير من الثغرات وإتمام شكل الحرية في التلقي الثقافي ولكن الواقع عكس ذلك. فالقنوات الفضائية التي يزداد عددها يوماً بعد يوم لا تختزل انفتاحنا المعرفي والثقافي وإنما تعيد وجودنا التبعي مكاناً وزماناً فوق الأرض الواحدة.
وإذا تأملنا ما يتدهور في حياتنا الثقافية من جراء الانفتاح غير العقلاني على الثقافة الالكترونية (عبر الفضائية) فسنجد أبعاد المسافة التي نقيس بها حدود الهوة بين الإعلام والثقافة تتضح أكثر وأكثر:
ـ لقد ازدادت العصبيات للثقافات المحلية في مرحلة البث الفضائي المفتوح، وهي عصبيات لا تكتفي بتوسيع رقعة المسافة بين ثقافة عربية وثقافة عربية أخرى، أو بين ثقافة نخبة وثقافة نخبة أخرى وإنما زادتها توتراً وصراعاً.
ـ وازدادت الهوّة بين المحلي والعالمي على صعيد إنتاج الثقافة في الإبداع والفكر بشكل خاص، فالإعلام الرسمي يخطط للانفتاح على الثقافة الجديدة والبث الفضائي بتشريعات وقرارات سياسية مباشرة لا يواكبها تخطيط متكافئ لبرامج الثقافة المحلية، ولذا فقد ازدادت عزلة هذه الثقافة في دول المنطقة. وبات استقطاب الثقافة العربية لمثقفي منطقة الخليج أكثر إيجابية وحفاوة وثقة من تفاعل الثقافة الإعلامية المحلية.
ـ ازداد تيار الثقافة الاستهلاكية.. التيار الذي لا يخضع سوى لقانون قوة الطلب العام في السوق المتحالف مع سياسات الاقتصاد، وما من شك في أن تزايد هذا التيار يخلق ثقافات متباعدة لأنه يفرز الأشكال الثقافية ومنتجاتها إبداعية وغير إبداعية، وفق معايير ثقافة السوق وحدها، بينما المعايير أوسع من ذلك بكثير.. ولذا كانت المسافات متباعدة جداً بين شعراء وشعراء، أو بين شعر حديث وشعر نبطي، أو بين أغنية وأغنية، أو بين مسرح ومسرح، أو بين كاتب وكاتب الخ..
ـ تخلي الإعلام تدريجياً عن سياسة دعم الثقافة والتخطيط لها عبر وسائطها التقليدية المعروفة مثل التشريعات الثقافية، الكتاب، وسائل النشر، المسرح (الفرق المسرحية الأهلية)، الجمعيات الثقافية الأهلية. وذلك بحجة ارتفاع الكلفة المادية للدعم بينما الواقع الحقيقي لذلك هو غياب الرهان على الثقافة، وعدم الاحتكام إليها في استراتيجيات الإعلام.
والخلاصة فيما أذهب إليه حول الثغرة الثقافية في الإعلام لا ينبغي أن تفهم فقط في الموقف المضاد من تأطير الثقافة، وكبحها بواسطة الإعلام، أو من السياسات المنفتحة على قنوات البث الفضائي، وإنما ينبغي أن تفهم في حدود أن الإعلام إنتاج ثقافي ومعرفي لا يتم في معزل عن الشراكة الثقافية، وربما كان الغرب الليبرالي يعتنق جانباً كبيراً من حدود هذا المفهوم، لكننا تعودنا في مجتمعاتنا العربية على الأخذ الجزئي أو العكسي من ظاهرات المجتمع الحديث، أو من استراتيجياته وفلسفاته. ومثل هذا الأخذ يفسر سيرورة تطور الإعلام عندنا في اتجاه يفتقر إلى القاعدة الثقافية لمفهوم الشراكة والديمقراطية، وهو اتجاه لا يعبأ بالرأي العام عادة ولا يقرّ بالاختلاف والتنوع، ولا يعي لمخاطر المسافات التي يقيمها داخل بؤر الثقافة وبين خصوصياتها. وإذا تصورنا مدى قدرة الإعلام على مقاربة الوعي واختراق الجماهير العريضة فلنا أن نتصور مدى التأثيرات العكسية للثغرة الثقافية التي تنتجها آلة الإعلام في حياتنا المعاصرة.
*المصدر : الثقافة وانتاج الديمقراطية