* يحيى اليحياوي
التحدّث عن الحق في الإعلام ليس بالضرورة من جنس الحديث في قانون الإعلام ولا في الأبعاد القانونية للحقّ في الإعلام. والفارق بين المستويين هو، في ما نعتقد، من نوع الفارق بين التحدث عن الحق في الإعلام كحقوق وضمانات والتحدّث عن قانون الإعلام كواجبات والتزامات...
هذا التمييز، بين الحق في الإعلام وقانون الإعلام، ليس حتماً تمييزاً إجرائياً أو ذا حمولة عملية، لكنه بالأساس ذو طبيعة إن لم تكن أخلاقية فهي على الأقل ذات خلفية فلسفية لجهة التساؤل: مَنْ يحدد الآخر، قانون الإعلام أم الحق في الإعلام؟ ومَنْ من المفروض أن يجرّ الآخر؟
هي إذن مسألة جوهرية بالغة الأهمية: هل واقع الحال هو الذي ينبغي تقنينه وتنظيمه، أم الواجب هو تحديد الإطار العام القانوني الذي من شأنه أن يؤطر الحق في الإعلام كما سواه من الحقوق؟
هناك مسألة جوهرية ثانية لا تقلّ عن الأولى أهمية: هل من الضروري إثارة مسألة الحق في الاتصال على اعتبار أن لا إعلام يُذكر إذا لم يُمَوْسط له أو تتم الموسطة له تقنياً أو أدواتياً، أم تُرى ان لكلا الحقلين فضاءه؟
لماذا هذا التساؤل؟ لسببين أساسيين:
أولاً، لأن الإعلام هو مضامين ومحتويات، في حين أن الاتصال يحيل على البنى التحتية وعلى الشبكات... والتي تحيل بدورها على نظريات الإرسال والتلقي... وما إليها.
ثانياً، لأن لا حق في الإعلام إذا لم تتوافر هناك منظومة للحق في الاتصال بما هي منظومة لتقنين سُبُل الاتصال بين باعث الرسالة الإعلامية ومتلقيها.
امتداداً لكل هذا يُمكننا التساؤل: ما هي التحديات التكنولوجية التي تُرفع وستُرفع لا محالة في وجه الحق في الإعلام بصورة عامة، وفي حالة المغرب على وجه الخصوص؟
للإجابة على هذا التساؤل، هناك مجموعة معطيات كبرى من الضروري سوقها هنا رفعاً لكل ليس ودرءاً لكل التباس:
المعطى الأول مؤداه أن الحق في الإعلام معطى شامل، إما أن يتكرس في شموليته أو لا يتكرس أبداً. وبالتالي، فلا معنى لتجزئته حتى وإن كانت الإجراءات القانونية تفرض ذلك.
ومعنى هذا أن حق المواطن في إعلام صادق وحقيقي وغير متحيّز هو كلٌ لا يتجزأُ، سواء أتعلق الأمر بالصحافة المكتوبة أم بالمجال السمعي – البصري أم بالمعلومات المارة عبر الشبكات الإلكترونية وفي مقدمتها الإنترنت... إلخ، وعلى هذا الأساس، فالحق في الإعلام هو حق موحد وشامل ويجب أن يكون مؤحّداً وشاملاً بصرف النظر عن الإجراءات القانونية والتحوّلات التكنولوجية الجارية.
المعطى الثاني ينطلق من التساؤل: هل من المفروض تكريس الحق في الإعلام، أو على الأقل المطالبة بتكريسه، في حال تعذر تكريس الحقوق الأولية الأخرى، أقصد الحق في الشغل، والحق في التطبيب، والحق في التعلّم... وسواها؟
أعتقد، بصرف النظر عن الأولويات، أن الحق في الإعلام هو حق من حقوق الإنسان تماماً كباقي الحقوق. وبالتالي، فهو ليس ترفاً أو حقاً ثانوياً، بل هو حق حقيقي ليس فقط لأنه "بارومتر" يقيس مستوى التنمية، بل أيضاً لأنه عنصر من عناصر البناء الديموقراطي والتحوّل السياسي. وعلى هذا، بقدر ما للمواطن الحق في الشغل والتطبيب والتعلّم وغيرها، بقدر ما له الحق في إعلام حر يضمن له بلوغ المعلومات دونما رقابة أو تعتيم أو منع.
المعطى الثالث مضمونه أن كل مستجدّ تكنولوجي في ميدان الإعلام والاتصال لابدّ وأن يصاحبه تأطير قانوني، في جانبه الحقوقي أساساً، إما بغرض العمل على تملّكه أو لهجة الحيلولة دون بروز تجاوزات في داخله. وهذا صحيح مع انفجار القنوات الفضائية، وصحيح أيضاً مع تزايد استعمالات شبكة الإنترنت وغيرها.
معنى هذا أن الحق في الإعلام ليس مبدأً مشاعاً، بل محكوم بالمستجدّ التكنولوجي الذي غالباً ما يحمل حقوقاً إضافية أو يتطاول على حقوق مكتسبة: حق الخصوصية، حق الحياة الخاصة، حماية الأطفال ضد العنف أو من الأفلام والمواقع الإباحية... إلخ.
المعطى الرابع: ليس كافياً، وإن كان ضرورياً، التأكيد على الحق في الإعلام، بل يجب أيضاً تمكين المواطن من الاستفادة منه وممارسته.
معنى هذا أنه ليس كافياً الاعتراف بالحق في بلوغ الشبكات الإعلامية والاتصالاتية، ولكن يجب أيضاً توفير الإمكانات وتحديد السُبُل لبلوغها فعلياً. وهذا الأمر مطروح سواء مع الشبكات التلفزية الرقمية أم مع شبكة الإنترنت.
وعليه، فإنه إذا لم تتوافر سُبُل بلوغ الشبكات آنفة الذكر أمام الشرائح الواسعة، سيبقى الحق في الإعلام حبراً على الذين لهم إمكانات، وهكذا سنسقط من جديد في معضلة: من له الحق في الإعلام حقيقيةً، ومن لهم الحق في الإعلام على الورق فقط؟
وعلى هذا الأساس، أزعم أن ممارسة الحق في الإعلام يتطلّب توفير بنية تكنولوجية وسياسة أسعار مقبولة ودمقرطة الوصول إلى المعلومات المُتاحة في الشبكات.
المعطى الخامس: نلاحظ أن العولمة وثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال كرّستا "حقاً في الإعلام" يتجاوز ويتحدى الدولة الوطنية والقوانين الوطنية والسياسات الوطنية.
معنى هذا أن الاستعمال انتصر على القانون، ومعناه أيضاً أن حصول المواطن على المعلومة وعلى الخبر لم يعد حكراً على جهة (الدولة إلى عهد قريب)، بل أصبح شبه مضمون مع التحوّلات التي جاءت بها القنوات الفضائية والشبكات الإلكترونية.. وما إليها.
هذا الأمر يطرح تساؤلين: ما السبيل إلى تضمين هذه التحوّلات في المدونة القانونية، أي هل يجب تقنين ذلك أم تركه لنظام السوق؟ ثم كيف للدولة الوطنية ذات الحدود الجغرافية المعترف بها أن تقنن تيارات إعلامية عابرة للقارات ولا وسيلة تقنية لضبطها أو التحكّم فيها؟
المعطى السادس: كيف لدولةٍ لا تتحكم في إنتاج التكنولوجيا، ولا سيما في ميدان الإعلام والاتصال، أن تقنن استعمالاتها وفق منظومة من الحقوق مُكتسبة أو مُطالب باكتسابها؟
هذا أمر جوهري وتحدٍ حقيقي لمبدأ الحرية والحق في الإعلام.
ما يعقّد الأمور أكثر هو عندما توظَّف الدولة، الجاهلة بتبعات التكنولوجيا، مبدأ الحق في الإعلام والاتصال وتمسّ حياة الأفراد والجماعات كما هو الحال مع أجهزة الهاتف النقّال التي توضع داخل المدارس أو بجوار المنازل أو سوى ذلك. ثم، هل تُعتبر طفرة الهاتف النقال في المغرب واتساع رقعة الإنترنت فيه دليلاً على تكريس الحق في الإعلام والاتصال في المغرب؟
المعطى السابع، ويكمن في التساؤل: أين يبدأ الحق في الإعلام وأين ينتهي؟ أعتقد أنه يبدأ بالاعتراف بهذا الحق وتمكين الأفراد والجماعات من ممارسته، وأزعم أنه ينتهي عندما يطال حرية هؤلاء وشخصيتهم.
ثم أين موقع الحق في الإعلام في سلسلة "المعلومة – المعرفة الأولية – المعرفة المتقدمة – الثقافة"؟ أين يوجد الحق في الإعلام في هذا السلسلة؟ ثم هل صحيح أنه عندما يصبح الحق مشاعاً ينتهي كحق، وبالتالي نجب، حسب هذا الطرح، تخصيص الحقوق للذين هم أهل لها؟
أعتقد أن التركيز يجب أن لا ينصبّ فقط على المطالبة بتكريس الحق في الإعلام على ضوء الطفرة التكنولوجية المعاصرة، ولكن أيضاً على المطالبة بضمان سُبُل الاستفادة منه وإشاعته في المجتمع وفي الثقافة.
المصدر: كتاب أوراق في التكنولوجيا والإعلام والديموقراطية