*وليام مونتنغومري وات
*ترجمة: علي عباس مراد
لقد تم الآن التأسيس للادعاء بأن الفرضية المساعدة هي وجود بعض العلاقة المتبادلة بين كل من التغيرات الاقتصادية والتغيرات الدينية، ومن الضروري النظر إلى الطبيعة الدقيقة للتغيرات الاقتصادية قبل إعطاء تفسير أكثر دقة لهذه العلاقة المتبادلة.
1- التغيرات الاقتصادية الممهدة للتغيرات الدينية
إذا كان من المعتذر إثبات أن التغير الاقتصادي المرتبط بالتغير الديني هو في كل الحالات تغير في وسائل الإنتاج، فمن المألوف أن يكون التغير الاقتصادي من هذا النوع وهو ما يحدث بشكل خاص عندما تكون الحركة الدينية جديدة كليا وليست مجرد تعديل للحركة الدينية الموجودة. حيث كان حلول التجارة محل الرعي كمصدر لرزق الناس هو جوهر التغير في وسائل الإنتاج الذي مهد لظهور الإسلام في مكة، ومن المرجح أن يصدق ذلك أيضاً على بداية الهندوسية والبوذية، وإذا ما اعتمدنا عصر أنبياء العهد القديم الكبار كبداية فعلية لليهودية، فربما تُعدّ هذه البداية نتيجة للتحول من الرعي إلى الزراعة، ويبين المثال الأخير أن تحديد ماهية الحركة الجديدة والتعديل في الشيء القديم يبدو متعذراً غالباً لوجود نوع من الجدة في كل الحركات الدينية بقدر ما يوجد فيها أيضاً وفي الوقت ذاته امتداد للتقليد السائد، ولا تختلف تلك الحركات إلا في الأهمية النسبية لهذين الوجهين في كل منها. هكذا صنُفّت المسيحية كدين مستقل مع أنها في أصولها مجرد تعديل لليهودية، وبقدر ما عُدت المسيحية تعديلاً لحركة قائمة (ومعاصروها أيضاً عّدوها كذلك لقرن على الأقل)، فقد أكدت بذلك الزعم القائل بأن التغيرات في وسائل الإنتاج ترتبط عادة بحركات جديدة، ولكن يجب ألا يذهب هذا التأكيد بعيداً طالما أمكن عدّ الإسلام مجرد تعديل للتقاليد اليهودية المسيحية، لذلك ربما نستطيع القول إن التغيرات المهمة في وسائل الإنتاج ترتبط عادة بحركات دينية يغلب عليها طابع الجدة. وعلى أي حال، فإن المسألة التي نؤكد عليها هي أن التغيرات الاقتصادية المتربطة بتغيرات دينية ليست دائماً تغيرات في وسائل أو أساليب الإنتاج، وهنالك أنموذج آخر مهم للتغير الممهد للحركات الدينية هو تغير الحكام أو ما يمكن تسميته بشكل عام التغير السياسي الذي يعدّ انتشار الدين الإسلامي في إطار الأمبراطورية العربية أحد أمثلته الكبرى. ولكن المثال البارز على ذلك التغير السياسي هو نشوء المسيحية، إذ ليس هناك دليل ولو ضئيل على أن صيادي السمك الذين اتّبعوا المسيح كانوا سليلي رعاة أو فلاحين، ولكن هناك دليل كبير في العهد الجديد على القلق الاجتماعي الناتج عن اندماج فلسطين في الإمبراطورية الرومانية. فقد كان لمثل هذه التغيرات السياسية أصداء اقتصادية، فهناك تغيرات في توزيع الإنتاج الزراعي أو التجاري أو أيا كان، حيث كان يجب استخدام المنتجات الأساسية للبلاد لتسديد نفقة الإدا رة السياسية، ولكن الإدارة الجديدة قد تحتاج حصة أكبر أو أصغر مما كانت تحتاجه الإدارة القديمة أو قد تحتَسِبَ حصتها على أسس مختلفة، وسيوفر اندماج البلاد في الإمبراطورية احتمالات جديدة لتجارتها أو ربما يغلق بعض القنوات القديمة للتجارة، وسيأتي التجار من الأجزاء الأخرى للإمبراطورية إلى البلاد ليتغير بهذه الطريقة النمط العام لتجارتها. ولكن هناك تغيرات اقتصادية معينة لا تُدرج ضمن أي من النماذج المشار إليها، فالتحسن في وسائل الاتصال ليس تغيراً في وسائل أو أساليب الإنتاج، لكنه وإلى حد ما تقنية اقتصادية قد تؤدي إلى تحسين سبل العيش للعديد من الناس بتوسيعها لنطاق التجارة، ويبدو نمو التجارة تابعاً أحيانا للمزيد من استقرار الأمور في البلاد أو الإقليم، وهذا في حد ذاته تغير اقتصادي لكنه يبدو تابعا للتغيرات السياسية والاجتماعية، وهكذا فان هناك تنوع كبير في التغيرات الاقتصادية المدروسة والتي حتى إذا وصفت كلها بأنه قضايا (اقتصادية) فستتولد عن علاقة العوامل الاقتصادية الخاصة بالعوامل السياسية والاجتماعية أسئلة من الضروري العودة إليها.
2- العلاقة المتبادلة بين التغيرات الاقتصادية والتغيّرات الدينية:
إن هذا التنوع الكبير بين التغيّرات الاقتصادية ذات الصلة ليس بشيرا جيّدا لتوقعاتنا حول إمكانية العثور على ارتباط بينها وبين التغيّرات الدينية، وهنالك أيضاً معالم أخرى عديدة غير مشجعة، حيث يبين القليل من التفكير أن التغيّرات الاقتصادية المتماثلة إلى حد بعيد لا تنتج دائماً تغيّرات دينية متماثلة. فقد فتح العرب مصر وفارس في الوقت نفسه تقريباً، ولكن انتشار الإسلام في بلاد فارس تقدم بسرعة أكبر من سرعة انتشاره في مصر، وكان الضغط الاقتصادي والسياسي الأوروبي على المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية متشابها إلى حد كبير، ولكن استجابة المجموعتين كانت مختلفة، حيث أظهر الهندوس استعداداً أكبر لتبني الأساليب الأوروبية وهذا موقف وإن لم يكن دينيا خالصا فهو ذو مضامين دينية. ويجب ألا تعتمد هذه الاستجابات المختلفة على الاختلافات في العامل الاقتصادي, ولكن على الاختلافات في مواقف الجماعات التي اختبرت التغيّرات الاقتصادية، ويجب أن يكون هناك إلى جانب العوامل الاقتصادية عامل واحد آخر على الأقل هو عامل التقاليد، وتعزز هذه النتيجة ملاحظة عدم وجود علاقة ارتباط مطلق بين العامل الاقتصادي وأهمية أو نطاق التغيّر الديني. وربما يمكن عدّ التغيّر الاقتصادي في مكة مساوياً لظهور الإسلام هناك، ولكنه ليس مساوياً لانتشار الإسلام من المغرب وحتى باكستان، ولا يَظهر أن هناك أي تغير اقتصادي منفرد يشكل أساساً لعملية انتشار الإسلام في كل مكان من هذه المنطقة، وحتى إذا أخذنا بنظر الاعتبار لهذا الغرض توسع الإمبراطورية العربية بوصفه تغيّراً اقتصادياً، فإن هذا التوسع لا يفسر كل شي طالما أن الإسلام قد توسع إلى ما بعد عالم الحكم العربي وأبعد من عالم الحكم العربي الإسلامي. وترتبط الاختلافات في نطاق التغيّرات الدينية والتغيّرات الاقتصادية المقابلة لها بحقيقة أن انتشار الأديان الكبرى أمر معقد في كل حالة، وهذا ما أوضحته المناقشة المسابقة وستكون هناك توضيحات إسلامية إضافية في الفصل الرابع.
لقد اعتنق الناس الأديان الكبرى في ظروف اقتصادية غاية في التنوع، ففي أي بلد ستنجذب مجموعة أو طبقة اجتماعية واحدة إلى الدين الجديد بشكل خاص لتعمل عاجلاً أو آجلاً على استمالة بقية المجتمع إليها، وبكلمات أخرى، إذا كانت الحركة الدينية في أقصى معدلات انتشارها فإن الذين يدخلونها يفعلون ذلك لأسباب مختلفة، وفي الحقيقة أن إحدى القضايا الرئيسة التي سيدرسها هذا الكتاب تحديدا هي اندماج مجموعات بشرية ذات خواص متباينة في نوع من الوحدة. ويبدو أمرا بعيد الاحتمال تفسير انتشار الدين الكبير على أنه ثمرة لتغيّر اقتصادي متجانس نتيجة للتباين الشديد في سمات معتنقي الأديان الكبيرة. وإذا تساءلنا أيضاً هل أن التغيّرات الاقتصادية تؤدّي دائماً إلى تغيّرات دينية، فإن العرض المختصر السابق يقدم الإجابة التالية:
حيثما يكون التغيّر الاقتصادي تغيّراً في وسائل أو أساليب الإنتاج، سيكون لهذا التغيّر عادة نتائج اجتماعية تقود بدورها إلى تغيّر ديني، ومن جانب آخر، وحيثما يكون التغيّر الاقتصادي تغيّراً في شخص الحاكم، فستعتمد التأثيرات على ما إذا كان الحاكم الجديد من نوع الحاكم السابق أو من نوع جديد.
وبذلك فإن انتماء السادة الإقطاعيين في أوروبا القرون الوسطى إلى نوع واحد، جعل تغيّر السيد لا يؤدّي بشكل طبيعي إلى تغيّر ديني، ولكن المسلمين الذين فتحوا بلاد فارس كانوا ينتمون إلى نظام اجتماعي يختلف عن النظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه الحكام الفرس، لذلك قاد الفتح بمرور الوقت إلى تغيّر ديني، ونستنتج من ذلك شدة تعقيد هذه المسألة، فليس هناك ارتباط تام بين التغيرين الاقتصادي والديني. ولابدّ من الإقرار أيضاً بأهمية عامل التقاليد في مثل هذه التغيّرات إلى جانب العامل الاقتصادي، ويعني هذا أن الوضع الذي يعيش المجتمع ويعمل وفقا له، يتشكل أساساً بفعل عوامل التقنية الاقتصادية والتقاليد، وبذلك يكون للعامل الاقتصادي موقع مركزي بحكم ارتباطه بوسائل الحياة، إذ يجب أن يتخذ الناس والمجتمعات التدابير المناسبة لضمان بقائهم على قيد الحياة قبل انشغالهم بأيّ شيء آخر، ومهما كانت طبيعة التقنية الاقتصادية التي يستخدمونها في ذلك، رعوية كانت أو تجاربية أو زراعية أو إدارية إمبراطورية كما في حالة العرب في القرن الأوّل للإمبراطورية الإسلامية، فإن هذه التقنية لا تحدد الشكل العام للحياة في المجتمع لكنها توفر له البنية النهائية نسبياً.
والقول بأن التقنيات الاقتصادية هي التي تشكل إطار الحياة المجتمعية، يشير ضمنياً إلى وجود خيار محدود بشأن هذه التقنيات، فقد كان العرب في السنوات التي أعقبت وفاة محمد أحرارا ولو نظريا في الذهاب للعيش في الصحراء لرعي إبلهم، وفعل بعضهم ذلك، ولكن أعدادا كبيرة منهم شعرت بأن حياة حملات الغزو وجيوش الفتح وقوات الاحتلال ليست أكثر ربحا فحسب، بل وأكثر تشويقاً وإرضاء للنفس أيضاً. وكانت هذه قرارات إرادية حرة، إلا أن الطبيعة الإنسانية لا تكون إلا ما هي عليه أو أن هناك حتمية مؤكدة بشأنها، فبعد أن استسلم العرب لحياة الأرستقراطية العسكرية التي تحكم إمبراطورية واسعة، كان بمقدورهم ولو نظريا التخلي عن هذه الحياة والعودة إلى الصحراء، ولكن صعوبة ذلك تزايدت عمليا. وكان من الممكن نظريا وبالمثل أن يثور الفرس والبربر وباقي الشعوب الخاضعة على حكامهم العرب، وكان هناك بالتأكيد بعض الثورات، لقد كانت البنية السياسية العربية حتى ذلك الوقت وعلى العموم إطارا راسخاً وحتمياً لحياة الشعوب التي جربت تعديلات اجتماعية ودينية داخل هذه البنية.
ولكن العلاقة بين التغيّرات الاقتصادية والتغيّرات الدينية والتي تحدث بتأثيرها الحركات الدينية في إطار اقتصادي متبلور نسبياً هي ظاهرة مختلفة عن ظاهرة النتائج الاقتصادية للدين، فقد كان تحريم الإسلام للربا محاولة لدفع يهود المدينة لإقراض المال للمسلمين دون مقابل، ولكن هذه التحريم أعاق التطوّر الصناعي في الأقطار الإسلامية في القرن العشرين طالما تم تأويله على أنه يعني تحريم تكوين الشركات المحاصة (شركات رأس المال المشترك) وهو شي لا يكن بالإمكان تصوره في عهد محمد نفسه، وهذه نتائج اقتصادية عرضية للحركة الدينية، ولكن للعامل الاقتصادي أهمية محورية في خلق الوضع الذي تنشأ عنه هذه الحركة الدينية.
المصدر: كتاب الإسلام واندماج المجتمع