* نادر فرجاني
لقد أصبح مستقراً، حتى في نظر المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي، أن العامل الحاكم في التقدم هو الاستثمار الكثيف في البشر، ما يسمى بناء رأس المال البشري. ولكن يلزم أيضاً أن يوظف رأس المال البشري المكون بكفاءة، أي على مستوى إنتاجية مرتفع.
ويمكن القول إن تاريخ الفكر التنموي هو سجل لتطوّر فهم رأس المال. فقد وقع التركيز قديماً على رأس المال الطبيعي والمالي، وإن لم يهمل عنصر العمل. ولكن، تسارع في العقود الثلاثة الأخيرة الاعتراف بأهمية العنصر البشري في منظومة النمو والتنمية، فقامت مدرسة "رأس المال البشري" (Human Capital)، فالاستثمار يقع في البشر، أساساً من خلال التعليم، مولداً رأس مال جوهرياً للأفراد وللأسر وللمجتمعات على حد سواء، على صورة توجهات اجتماعية، ومعارف، وقدرات. وتبلور مفهوم "تنمية الموارد البشرية" (Human Resources Development) الذي قام على أن البشر مورد، كأي مورد آخر، وعنصر من عناصر الإنتاج، يتعين أن ينمى ويصان لكي يحقق أقصى إنتاجية ممكنة. ولكن رويداً تزايدت أهمية البشر حتى استقر مفهوم "التنمية البشرية" (Human Development) الذي يرى في رفاه البشر غاية الجهد الإنساني وليس مجرد إحدى وسائله، ويرتب أهمية كبرى لتطوير القدرات الإنسانية وتوظيف هذه القدرات في تعظيم الرفاه المجتمعي، ويوسع نطاق الرفاه في ما وراء الجوانب المادية للعيش إلى الحالات الأرقى من الوجود الإنساني في نهايات القرن العشرين.
كذلك تبلور مفهوم رأس المال الاجتماعي (Social Capital) الذي يرتب أهمية كبرى لأنساق العلاقات الاجتماعية التي تنظم البشر هياكل مؤسسية تحدد طبيعة النشاط الاجتماعي الاقتصادي ومدى كفاءته. وحتى في المنظور الاقتصادي الضيق، يعد رأس المال الاجتماعي عاملاً حيوياً في توليد النمو الاقتصادي.
وتتقاطر الكتابات مؤخراً في موضوع رأس المال الفكري (Intellectual Capital) الذي يمثل جماع المعرفة ومعين الهوية والخصوصية الإنسانية لطائفة من البشر. ويكتسب رأس المال الثقافي أهمية خاصة في حالة مجموعة البلدان العربية التي يمكن أن تحول الجوانب الإيجابية من إرثها الثقافي المشترك إلى عامل نهضة وعزة، وبالذات على خلفية صدام الحضارات في عصر العولمة.
وهكذا يتضاءل دور رأس المال الطبيعي والمالي أمام الأهمية المتعاظمة لأشكال رأس المال الإنساني المتعددة، المتركزة في البشر، أفراداً ومؤسسات ومجتمعات، باعتبارها عماد التقدم الإنساني قرب نهاية القرن العشرين. ومن هنا ينبع الاهتمام الفائق بالتعليم، حيث "يصنع" رأس المال الإنساني ويشكل، أو "يستزرع".
من أسف أنه يغيب في غمار الحماس لرأس المال (المالي) والتهافت على تشجيعه في البلدان العربية الفقيرة، أن هناك إجمالاً الآن، حتى في دوائر الاقتصاد العالمي ذاتها، على أن جذب راس المال (المالي) الخارجي، أو تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي، أو بناء القدرة التنافسية في الاقتصاد العالمي، وهي أعمدة معبد الرأسمالية الراهن، وبخاصة في البلدان المتخلفة، كلها رهن بكم، وبجودة، رأس المال البشري وبمدى رقي رأس المال الاجتماعي.
وفي منظور المشاكل الأكثر إلحاحاً، حتى في منظور الاقتصاد العالمي الجديد، فإن الفقر يستشري في البلدان العربية، ويتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة، بما ينذر بصراعات اجتماعية عنيقة، تأججت نيرانها في بلدان عربية وتتجمع سحبها السوداء في أخريات. وقد استقر في أدبيات التنمية، وخصوصاً في ظل نظام السوق الحر الذي تتحول إليه البلدان العربية، باندفاع خطر، أن الوسيلة الناجعة لمكافحة الفقر هي في تمكين الفقراء أنفسهم من كسر حلقة الفقر الشريرة، من خلال المشاركة الفاعلة في النشاط الاقتصادي والمجتمعي. وليس لدى الفقراء من رأسمال إلا قوة عملهم. ويطلب ذلك تبني الدولة لسياسات تزود الفقراء بأنواع رأس المال المختلفة: البشري، والاجتماعي، والمالي، والعيني. وأهمها الأوّل، وقوامه المعارف والمهارات التي تتكون عن طريق صنوف التعليم المختلفة؛ والثاني، ومبناه التنظيم المؤسسي، والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، المحقق للكفاءة الإنتاجية ولمصالح عموم الناس على حد سواء.
وجلي التعليم العالي يلعب الدور المحوري في تشكيل الصنوف الأكثر رقياً من رأس المال الإنساني، بل إنه مساهمة التعليم العالي في بناء رأس المال الإنساني تتعاظم مع ارتقاء صنف رأس المال. فتزيد مساهمة التعليم العالي في تكوين رأس المال الاجتماعي مثلاً على مساهمته في بناء رأس المال البشري بالمعنى التقليدي: التوجهات الاجتماعية والمعارف والقدرات، والذي يشارك فيه العديد من الأنظمة التعليمية والمؤسسات الاجتماعية المكونة لنسق التنشئة في المجتمع، وإن كانت مؤسسات التعليم العالي هي التي تؤسس الثروة المجتمعية من المعارف والقدرات المتطوّرة، وهي عماد التقدم في القرن الواحد والعشرين.
وتكاد مؤسسات التعليم العالي، وبخاصة الجامعات، تتحمل العبء الأساس في حيوية الفكر، أي تطوير رأس المال الفكري، والحفاظ على ثقافة الأمّة وتجديدها، أي بناء رأس المال الثقافي، من خلال البحث وإعمال الفكر.
وتلعب مؤسسات التعليم العالي، وبخاصة على الأنماط التنظيمية المحدثة القائمة على تداخل التخصصات المعرفية، دوراً أساسياً في تطوير المجتمعات، من خلال جهود البحث والتطوير التي تجري في تضافر وثيق مع وحدات قطاع الأعمال العام، والحكومة والمجتمع المدني.
ومرة أخرى، نشدد على أن المناقشة السريعة لدور التعليم العالي في تنمية المجتمعات المتخلفة المقدمة أعلاه، وبخاصة بالترافق مع التوصيف المتضمن في القسم التالي، تبين العائد المجتمعي العظيم الذي يتوقع من تطوير حق لمنظومة التعليم العالي في البلدان العربية.
المصدر: كتاب التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي