* جهان مصطفى
التقارب التركي - السوري في السنوات الأخيرة والذي توج بإعلان البلدين في 13 أكتوبر/ تشرين الأول عن توقيع اتفاق حول فتح الحدود المشتركة وإلغاء تأشيرات الدخول بينهما، أثار الكثير من التساؤلات حول أسباب هذا التحول التاريخي في علاقات البلدين من العداء السافر إلى التحالف الاستراتيجي؟ وهل هو بداية لظهور تحالفات جديدة في المنطقة أم أنه عودة للوضع الصحيح؟.
ورغم أن الإجابة ليست بالسهولة التي يتوقعها البعض، إلا أنها على الأرجح تجد نفسها في التغير الواضح في سياسة تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية للحكم في تركيا أو نظرية الداهية "أوجلو" بمعنى آخر أكثر تحديداً.
فوزير الخارجية التركي أحمد داود أوجلو، الذي عمل مستشاراً لأردوجان لمدة 7 سنوات والذي يوصف بأنه داهية السياسة التركية، هو صاحب النظرية التي تتحرك بها السياسة التركية منذ وصول حزب العدالة للحكم والتي أحدثت تحولات ذات مغزى كبير جداً.
تلك النظرية التي جاءت في كتاب أوجلو "العمق الاستراتيجي والمكانة الدولية لتركيا" تقوم على أساس أن تركيا دولة مركزية ولها دور عالمي يعكس تاريخها وعمقها الاستراتيجي، ولذا فإنها يجب أن تتبنى نظرية الانفتاح على الكل وتعدد البعد، والمقصود في هذا الصدد أنه لا يجب أن يكون هناك توتر بين تركيا وأية دولة وأن تكون العلاقات التعاونية أكثر، وأن لا تكون تركيا دولة أزمات بل دولة كبيرة تحترم آرائها إقليمياً وعالمياً بدءاً من الاحتباس الحراري وانتهاء بالشرق الأوسط.
الترجمة الحرفية لتلك النظرية بدأت تظهر بوضوح في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، حيث بدت تصرفات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان وكأنها دفاع عن كرامة ومكانة تركيا، وليست محاولة لأسلمة الدولة، وهو الأمر الذي دفع المعسكر العلماني لالتزام الصمت، خاصة بعد التأييد الشعبي الذي حظي به أردوجان بعد المشادة التي نشبت بينه وبين الرئيس الإسرائيلي في منتدى دافوس.
ويبدو أن أردوجان يستعد لاتخاذ مزيد من الإجراءات باتجاه أسلمة تركيا واستعادة دورها الريادي في العالم الإسلامي، خاصة بعد زيارة أوباما لأنقرة ومطالبته إياها بدور أكبر في تقريب وجهات النظر بين الغرب والعالم الإسلامي، ولم يكن هناك مَن هو أفضل من أوجلو الذي يعرف عنه أنه ذو نزعة عثمانية على طريق أسلمة تركيا، كما يعرف عنه الهدوء والذكاء والسرعة في امتصاص غضب العلمانيين.
أيضاً فإن أوجلو، الذي قام بدور نشط في جهود الوساطة التي قامت بها تركيا في الشرق الأوسط بين إسرائيل وسوريا، هو الوحيد القادر على توسيع مجال السياسة الخارجية لتركيا وتحسين الأمن الإقليمي من أرمينيا إلى العراق وإيران، ولعل حنكة أوجلو كانت حاسمة في إنهاء قضية مذابح الأرمن التي كانت دوماً وسيلة ابتزاز من جانب الغرب لتركيا وذلك بعد توقيع وزيري خارجية تركيا وأرمينيا في 10 أكتوبر/ تشرين الأول اتفاقاً تاريخياً في زيورخ بسويسرا لتطبيع العلاقات بين البلدين بعد نحو قرن من العداء بينهما.
وبالنسبة للعلاقات مع الغرب، فإنه من المتوقع أن يستغل أوجلو حاجة أوباما لانسحاب آمن من العراق وتحسين صورة أمريكا في العالم الإسلامي لدفع واشنطن لتقديم امتيازات إضافية لتركيا سواء كان ذلك عسكرياً أو اقتصادياً أو سياسياً، وخاصة ما يتعلق منها بدعم موقف أنقرة في القضية القبرصية.
تصريحات نارية
ولعل التصريحات التي أدلى بها أوجلو في 3 مايو بعد توليه منصب وزير الخارجية تؤكد أنه مصمم على التنفيذ الحرفي لنظريته "العمق الاستراتيجي والمكانة الدولية لتركيا"، فهو كشف أنه سيسعى لخلق دور إقليمي أكبر لبلاده في الشرق الأوسط والبلقان، قائلاً: "إن تركيا تمتلك رؤية سياسة خارجية قوية نحو الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة القوقاز، وتسعى لدور يرسي النظام في تلك المناطق".
وأضاف أن تركيا لم تعد البلد الذي تصدر عنه ردود أفعال إزاء الأزمات وإنما يتابعها قبل ظهورها ويتدخل في الأزمات بفاعلية ويعطي شكلا لنظام المنطقة المحيطة به، مشيراً إلى أن علاقة أنقرة مع الغرب ستستمر محوراً رئيسياً للسياسة الخارجية.
التصريحات السابقة قد تبدو وكأنها تحاول إيجاد توازن بين علاقات تركيا مع العالم الإسلامي من ناحية وعلاقاتها مع الغرب من ناحية أخرى، إلا أنها في حقيقة الأمر تؤكد أن حكومة حزب العدالة برئاسة أردوجان تسير بخطى ثابتة وواثقة على طريق أسلمة تركيا، وهذا ما ظهر واضحاً في إشارة أوجلو أولا للدور الإقليمي.
وهكذا يتضح أن عودة تركيا لمحيطها الإقليمي بقوة إبان العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة لم يكن مجرد تطور طارئ وإنما هو سياسة مرسومة بدقة وذكاء كبيرين لاستعادة مكانة تركيا التاريخية إسلامياً ودولياً.
ويبدو أن الآراء التي ظهرت مؤخراً في العالم العربي وتتهم أنقرة بمحاولة استغلال القضية الفلسطينية لاستعادة دورها الإقليمي بالسعي للعب دور في الشرق الأوسط يغطي على فشلها في الانضمام للاتحاد الأوروبي، لم تأخذ بالاعتبار أبعاد نظرية أوجلو.
فتركيا وإن كانت تعطي للعالم العربي أهمية قصوى بسبب حقائق التاريخ والجغرافيا، إلا أنها لم تنس العالم الإسلامي وتوثق علاقاتها أيضاً مع إيران ودول آسيا الوسطى ولعل تصريحات أردوجان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي دافع خلالها عن البرنامج النووي الإيراني إنما تؤكد أن التقارب السوري - التركي ليس على حساب العرب، بل هو في صالحهم، لمواجهة عربدة إسرائيل في المنطقة من ناحية، ولأن الأمن القومي العربي يرتبط بعلاقات جيدة مع الجيران وتركيا تأتي في المقدمة في هذا الشأن بالنظر إلى عدم وجود خلافات عقائدية بين الجانبين.
ذعر في إسرائيل والغرب
وهناك حقيقة هامة أخرى لا تقلق العرب وهي أن تركيا في السنوات الأخيرة حلت مشاكلها الداخلية، ونجحت في سياستها الاقتصادية، واتبعت طريقاً صحيحاً في التعاون الدولي، فتركت منطق المجابهة لصالح التعاون مع الآخرين، فاكتسبت رصيداً كبيراً وثقة ثابتة، هذا بجانب أن تركيا بعكس إيران فهي ذات علاقة قوية بالغرب، وإذا كانت طهران مفيدة لدمشق في التصدي لضغوط الغرب وإسرائيل، فأنقرة هي الجسر الوحيد نحو هذا الغرب الذي لا يزال يملك وحده مفاتيح الحل والربط في المنطقة.
أيضاً فإن تركيا تسعى بقوة لاستعادة دورها التاريخي ليس فقط في العالمين العربي والإسلامي، وإنما في العالم كله، وهذا الأمر بات يزعج إسرائيل بشدة لأنه يقضي على حالة اللاتوازن القائمة لصالحها منذ عقود.
ويبدو أن النهج الذي تسير عليه تركيا حالياً سيزعج الغرب عاجلاً أم آجلاً، فأوراق ابتزازها تتساقط أمام تصاعد نفوذها وقوتها واستقلال سياستها الخارجية، بل ويرجح أن يأتي اليوم الذي يسعى فيه الاتحاد الأوروبي لضم تركيا لاستيعابها، فيما ترد هي بالرفض.
ولعل سياساتها على أرض الواقع ترجح هذا الأمر، فهي وقفت في مواجهة محاولات الغرب وبتحريض إسرائيلي لعزل سوريا، كما رفض البرلمان التركي السماح باستخدام الأراضي التركية في غزو العراق، بجانب تصريحات رجب طيب أردوجان حول تأييد حق سوريا الكامل في استعادة الجولان السوري المحتل والانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي الفلسطينية والعربية إلى خط الرابع من حزيران 67 وتأييد وحدة العراق وإدانة مجازر إسرائيل في غزة وانسحابه من منتدى دافوس بعد ملاسنة مع الرئيس الإسرائيلي، وأخيراً إلغائه لمناورات عسكرية مع حلف الناتو كانت مقررة في 12 أكتوبر بسبب مشاركة إسرائيل فيها.
من العداء للتحالف الاستراتيجي
المواقف السابقة تؤكد أن العلاقات بين تركيا والعالم العربي المستندة إلى التاريخ والجغرافيا ستكون لها الكلمة الفصل في المستقبل وهذا الأمر بات يقلق الغرب وإن كان بشكل مستتر حتى الآن للحفاظ على مصالحه الاستراتيجية مع تركيا.
ويبدو أن تحول العلاقات بين أنقرة ودمشق من العداء الصارخ للتحالف الوثيق يرجح الفرضية السابقة ، فمعروف أنه منذ مطلع القرن الماضي وحتى سنوات قليلة مضت، كان هناك عداء بين الدولتين تركز في بداية الاستقلال السوري على ذكرى الاضطهاد خلال فترة الحكم العثماني ثم ضم تركيا لواء اسكندرون السوري عام 1938، وبعد ذلك امتد العداء ليشمل قضايا كثيرة أخرى منها انضمام تركيا لحلف الناتو، وفي التسعينات من القرن الماضي، اتهمت دمشق أنقرة بحجزها مياه الفرات عنها، وإرسالها المياه الملوثة عبر النهر، وتجفيف نهر الخابور، وطالبت بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه على أسس دولية رفضتها أنقرة حتى الآن، وتصاعدت حدة النزاع السوري - التركي بسبب التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وإسرائيل، واعتبرت دمشق، مثلها مثل الدول العربية جميعاً، أنقرة أحد العواصم المعادية للقومية العربية والمتحالفة مع خصومها.
وقد وصل النزاع إلى ذروته عام 1998 عندما هددت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوضع حد لهجمات حزب العمال الكردستاني التركي المحظور الذي كان يتلقى الدعم من سوريا، وقد أسفرت الأزمة عن توقيع اتفاقية أضنة قبلت دمشق بموجبها وقف التعاون مع حزب العمال وتراجعت عن المطالبة التاريخية باسترجاع لواء اسكندرون الذي كان نقطة خلاف دائمة وأبدية بين حكومات دمشق وأنقرة المتعاقبة.
وبعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا عام 2002، بدأ يحدث تقارب بين الدولتين وباتت تركيا راعية المفاوضات السورية - الإسرائيلية والمدافع الأكبر عن النظام السوري في وجه الضغوط الأمريكية والغربية.
وسرعان ما انتقل التقارب إلى الميادين الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية، حيث تم التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، بجانب إجراء مناورات عسكرية تركية ـ سورية في مناطق الحدود المشتركة عام 2009.
وفي منتصف سبتمبر 2009، أعلن أردوجان والرئيس السوري بشار الأسد من مدينة اسطنبول عن إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي يجتمع بشكل منتظم ويضم كبار مسئولي الدولتين، وأخيراً أعلن في 13 أكتوبر/ تشرين الأول عن توقيع اتفاق بين الدولتين حول فتح الحدود المشتركة وإلغاء تأشيرات الدخول بينهما.
وعلق وزير الخارجية التركي أحمد داود أوجلو على هذا الاتفاق التاريخي، قائلاً: "إلغاء تأشيرات الدخول بين سوريا وتركيا هو عيد للشعبين اللذين يحتفلان كل عام بعيدين ولكنهما هذا العام سيحتفلان بثلاثة أعياد"، مشيراً إلى أن الاجتماعات السورية - التركية باتت تحمل أهمية كبيرة من الناحية الاستراتيجية والاقتصادية.
وأضاف: "هذا يشكل نموذجاً لتعاون استراتيجي وهو رسالة موجهة إلى المنطقة ونأمل أن يحقق هذا المفهوم التكامل الاقتصادي والثقافي بين الشعبين وأن يعم هذا التعاون المنطقة".
وتابع أوجلو: "ننظر إلى العلاقة التركية - السورية على أنها عنصر أساسي لتطور العلاقات مع العالم العربي والشرق الأوسط من ناحية علاقات الدول الجارة وأيضاً من ناحية اقتسام المكان والتاريخ والجغرافيا المشتركة".
واعتبر ان هذه العلاقات ضرورية لا مفر منها، قائلاً: "نحن نتشارك نفس الجغرافيا وننظر لهذه العلاقة على أنها تعزز العلاقة مع الدول العربية.. وسوريا دولة عزيزة علينا وهى إحدى الدول المهمة في الجامعة العربية لذلك يجب ألا يقلق أحد فيما يتعلق بتطور العلاقات بين تركيا وسوريا فهذه العلاقات ليست بديلاً من العلاقة مع أي دولة أخرى بل ستساعد في تطوير العلاقات العربية التركية".
ومن جانبه، قال وزير الخارجية السوري وليد المعلم: "إن هذه العلاقة سمتها الأساسية هى في معادلة كيف يربح الطرفان، وهي حكمة قائمة على النظر إلى المدى البعيد فيما يخدم مصالحهما"، منوهاً بأنها علاقة مبنية على حقائق الجغرافيا والتاريخ، وتقوم على قاعدة شعبية تركية، وشبه توافق بين الحكومة والمعارضة على علاقة طيبة واستراتيجية مع سوريا، لذا لا خوف عليها، وإن اختلفت طبيعة الحكام في أنقرة مستقبلاً.
وأعرب المعلم في هذا الصدد عن ارتياحه لخطوة تركيا إلغاء المناورات العسكرية مع إسرائيل، مشيراً إلى أن العلاقة بين الجيشين السوري والتركي قوية أيضاً، وأن العلاقة بين سوريا وتركيا، على النقيض لعلاقة إسرائيل بتركيا، مبنية على حقائق جغرافية وتاريخية.
والخلاصة أن هناك إصراراً من تركيا وسوريا على تمتين علاقاتهما الثنائية وهذا يصب في النهاية في خدمة القضايا العربية