* د. محمد عابد الجابري
بذل علماء الغرب ومفكّروه جهداً واضحاً لبلورة مفهوم الحضارة، وتحديد ماهيته، وبحث أصوله وغير ذلك من القضايا المتمخضة عنه؛ فجاءت اجتهاداتُهم متنوعة؛ متشاكلة طوراً، ومتباينة أطواراً أخرى. وكانت لهم الريادة في هذا الصدد، بحيث إنهم أثروا بآرائهم في الثقافات الأخرى، ووُجد دارسون كُثْرٌ يرددون طروحاتهم. وسنعرض ها هنا منظورات عدد من المثقفين الغربيين للحضارة، وليكن البدء برأي وِيلْ ديورانت في الموضوع. يقول: "الحضارة نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. وإنما تتألف الحضارة من عناصرَ أربعةٍ: الموارد الاقتصادية؛ النّظُم السياسية؛ التقاليد الخُلُقية؛ ومتابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذٍ لا تنفكّ الحوافز الطبيعية تستنهضُه للمضيِّ في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها". إن ديورانت يجعل الحضارة نسَقاً مجتمعياً مؤسساً على مقوّمات رئيسة متشابكة ذات صلة بالاقتصاد والسياسة والأخلاق والعلوم والفنون، تنحو نحو غاية أساسية تمثُل في مساعدة الإنسان على تنمية رصيده الثقافي وتقوية منتَجِه المعرفي. ويرى أن الحد الفيصل بين الحضارة واللاحضارة ذو علاقة بسيكولوجية الإنسان، إذ يعيش المجتمع طور الحضارة والتمدُّن لمّا ينعم أفراده بالطمأنينة والاستقرار، فتنزع إراداتهم الحرة نحو البناء والخلق والإسهام في ترقية الحياة البشرية كلها.
وعرّف الأنثروبولوجي والسوسيولوجي الإنكليزي إدوارد تايلور (1832 – 1917م)، الحضارة بأنها "درجة من التقدم الثقافي تكون فيها الفنون والعلوم والحياة السياسية في درجة متقدمة"؛ أي أن التحضر في نظر هذا العالِم، مرتبط بالتاريخ الثقافي. إذ يتحقق خصوصاً عندما يبلغ تطور أشكال المعرفة والثقافة مستوىً راقياً من التقدم والتبلور والنضج.
وحدَّد ألبرت شفيتسر، في كتابه فلسفة الحضارة، الحضارة بجوهرها؛ فقال إن "العناصر الجمالية والاتساع الرائع في معارفنا المادية وقُوانا؛ كل هذا لا يكوّن جوهر الحضارة، وإنما يتوقف هذا الجوهرُ على الاستعدادات العقلية عند الأفراد والأمم القاطنة... إن الحضارة هي التقدم الروحي للأفراد والجماهير على السواءِ". وربط المؤرّخ الألماني سبنغلر، الحضارة بمفهومي الطبيعة والتاريخ؛ فعَدَّها ظاهرة ملازمة للطبيعة، وطوراً تاريخياً يمر به المجتمع الإنساني لمّا يجتاز مرحلة التأسيس والنشوء، ويعقبه في الدورة الحضارية للدول طور التدهور والسقوط. وكأنها بهذا العالم يردّد هنا ما سبق أن ذكره ابن خلدون في القرن الثامن للهجرة.
ومن أبرز الخائضين الغربيين في هذا المجال المؤرخ الإنكليزي (أرنولد توينبي) الذي ركز على أصل الحضارة ومنشئها، فقدم نظرية متفرّدة في هذا المساق، هي نظرية "التحدّي والاستجابة"، أو ما نستطيع التعبير عنه بنظرية "الفعل وردّ الفعل"؛ فالحضارة في تصوره لا تنشأ إلا كردّ فعل لعوامل خارجية أو داخلية ولتحديات بشرية أو طبيعية؛ فالمجتمع البشري يواجه في حياته، صعوبات عديدة يتحتّم عليه نجابهتها، وهذه الأخيرة تكون موفقة أحياناً وغير موفقة أحياناً أخرى؛ فإذا عجز المجتمع عن ردّ الخطر ومواجهة التحدّي المحدق به، فقد سُمعته واستقراره، وربما انتهى به الأمر إلى الفناء. وأما إذا أفلح المجتمع في مقاومة التحدي الذي يهدد وجود كِيانه وتغلّب عليه، فإنه آنذاك يتقوّى ويستمرّ، ويؤدي ذلك إلى نشوء ما يسمى "الحضارة". ولم يصغ توينبي هذه النظرية إلا بعد أن درس مجموعة من التجارب الإنسانية الحضارية في الشرق والغرب معاً؛ ومن أهمها حضارتا اليونان والرومان، والحضارتان السومرية والفرعونية؛ فقدماء المصريين مثلاً مروا بظروف حياتية عصيبة بسبب قسوة الطبيعة في الجنوب المصري (قلة الكلأ – انتشار الجفاف...)، ما جعلهم يتحركون طلباً لأماكن أخرى تتوافر فيها أسباب العيش وشروطه، فقصدوا النيل الأوسط والأعلى، وأقاموا حوله حضارة قوية دامت مئات السنين. ولتكون الاستجابة المذكورة آنفاً ممكنة في رأي توينبي، يلزم أن تكون للتحديات والصعاب حدودٌ معينة لا تتجاوزها. ويقدم لنا التاريخ الإنساني نموذجاتٍ لتجارب حضارية لم تقدر على مجابهة التحديات لقوتها وشدتها وتجاوزها إمكاناتها المحدودة، فكان مآلها الانكسار؛ مثلما حدث لشعب الإسكيمو مثلاً.
ولم يكن توينبي أول مَن قضية النشوء الحضاري، بل سبقته محاولات كثيرة تعود إلى فتراتٍ زمنية موغلة في القدم؛ فالفلاسفة الأغارقة القدامى عَدّوا الحضارة امتيازاً خصَّته بهم آلهتهم، نافين التحضر عمّن سواهم أو ناسِبين إليهم قدراً ضئيلاً جداً منه. وهكذا، فقد وَسَموا الفُرس بالهمج غير المتحضرين، ولم يعترفوا بالصفة الحضارية إلا للمصريين الذين سبقوهم في مضمار التحضر بمراحل، ولكن اعترافهم كان مَشُوباً بالحِقد والحسَد. وذهب جلّ فلاسفة الإسلام إلى أن الله جل علاه كرّم بني آدم بالعقل الذي اهتدوا بإعماله إلى تشييد الصّرح الحضاري أو العمران بتعبير ابن خلدون رحمه الله. ويرى المؤرخ الكبير د. حسين مؤنس، أن البشرية عاشت في طور البدائية والوحشية أرداحاً متطاولة من الزمن، لتعرف في فترة من تاريخها بعد أن تهيّأت لها ظروف معينة، حِراكاً حضارياً نقلها إلى طور آخرَ، هو طور الحضارة. يقول: "قضت [الإنسانية] نحو مليونين وتسعمائة ألف سنة أسفل "جبل الحضارة" قبل أن تتحرك صاعدة السفحَ، وإن ذلك الحراك لم يقتصر على جماعة واحدة من البشر، بل قامت به أمم شتّى به أوقات متقاربة. وبتحركها بدأت مسيرة التسلق الطويلة المُضنِية إلى درجات الصعود، وتفاوتت حظوظها في ذلك، ونشأ ذلك السباق الحضاري المعروف بين الأمم". وقد كان وراء هذا الحراك بحسب الكاتب نفسِه، ستّ حضاراتٍ إنسانية كبرى نقلت الإنسان من البدائية إلى الحضارة، ومن الجمود إلى الحركة، ومن حكم العادة إلى حكم العقل والفكر؛ ويتعلق الأمر بالحضارات المصرية، والسومرية (في بلاد الرافدين)، وحضارة المايا والأنديز (في أمريكا)، والحضارة الصينية، والحضارة المينوية التي تعد أم الحضارتين اليونانية والرومانية. ويسبق الحضارة، أيّ حضارة، بالضرورة إعدادٌ أو تفكيرٌ أو "وعي" أو تخطيط؛ لتكون مَبنية على أسسٍ متينة، ومشيّدة على دعائم راسخة تغذيها بعناصر القوة والفعل والتأثير والاستمرارية. يقول مؤنس: "لابدّ من تمهيد أو إعداد فكري حضاري لكل حركة تاريخية ذات مغزى حضاري حتى تأخذ الحركة معناها ومكانها الكاملين في مجرى التاريخ، وهذا التمهيد أو الإعداد الحضاري هو الذي يسمى بـ"الوعي الحضاري". وليس من الضروري أن يكون هذا الوعيُ قائماً في أذهان الجماعة كلها لتتحرك للعمل، بل يكفي أن تكون هناك أقلية قائدة واعية. وهي قائدة، لأنها واعية. ولم يعرف التاريخ حركة ذات معنى حضاري أو أثر في تقدم الجماعة أو الإنسانية كلها، إلا نهضت بعبئها هذه الأقلية الواعية التي تسمى عادة بـ الصِّفْوة أو الإيليت (Elite)".
المصدر: كتاب الإسلام والغرب (الأنا والآخر)