* حسني الطنطاوي
من بين أهم القضايا التي انحسر الاهتمام بها- نظرياً وعلمياً- قضية العدالة الاجتماعية بمفهومها الواسع، وبتطبيقاتها المتعددة في ميادين الحياة الاجتماعية، والسياسية، والقانونية.
فمنذ منتصف سبعينيات هذا القرن لانكاد نجد- إلا نادراً- عملاً عملياً، أو إنتاجاً فكرياً ثقافياً خاصاً بهذه القضية، وليس زوال المظالم- بأنواعها- هو سبب انحسار الاهتمام بالبحث في العدالة وعنها أو في السعي لتطبيقها عملياً في مختلف مجالات الحياة، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، بمعنى أن تفاقم تلك المظالم بدرجة كبيرة في ظل الصعود المستمر للمذهب الرأسمالي، وحدوث تغيرات أساسية في الهياكل الاقتصادية لكثير من الدول- وكذلك في أبنيتها السياسية بدرجات متفاوتة- كل ذلك قد أدى إلى تراجع قضية العدالة الاجتماعية في الفكر والممارسة معاً، في الوقت الذي صعدت فيه مفاهيم ومصطلحات دالة على قضايا أخرى منها "الانفتاح"، و"التحرير الاقتصادي" و"الإصلاح الاقتصادي" و"الخصخصة".
وتقدمت- في المقابل- سياسات مكافحة الإرهاب، والتصدي للجريمة المنظمة، وملاحقة الانتحار في المخدرات، على السياسات التي كانت تسعى لتقريب الفوارق بين الطبقات، ومحاصرة الفقر، والقضاء على الجهل، والارتفاع بمستوى معيشة القطاعات الواسعة من المواطنين، وتحقيق التوازن "والعدالة" بين الذين لا يملكون والذين يملكون، أو بين العمال وأصحاب الأعمال.
وهدفنا هنا هو تقديم رؤية لمفهوم العدالة بصفة عامة، والعدالة الاجتماعية بصفة خاصة، وتتضمن هذه الرؤية التعريف بالمفهوم وبيان خلفياته التاريخية، وعرض لأهم أبعاده ومقوماته ومستوياته التطبيقية..
أولاً: تعريف العدالة
العدل والعدالة من جذر لغوي واحد هو "عدل"، والعدل هو الإنصاف، وهو ما قام في النفوس أنه الحكم، ويقال عدل الشيء عدلاً بمعنى سواه وأقامه، وعدل الشيء بالشيء، سواه به وجعله مثله قائماً مقامه، واعتدل أي توسط بين حالين في كم، أو كيف، أو تناسب، والعدل أي الإنصاف- هو إعطاء المرء ماله وأخذ ما عليه! والعدل- أيضاً- هو الجمال، وهو ضد القبح وضد الظلم.
وثمة تعريفات متعددة لمفهوم "العدالة"، وليس ثمة تعريف واحد جامع مانع- بلغة أهل المنطق- هذا بالرغم من أن العدالة قيمة عليا من قيم التراث الإنساني الذي أسهمت في بنائه مختلف الشعوب والحضارات منذ أقدم عصور التاريخ حتى عصرنا الراهن، بغض النظر عن القدر الذي تحقق منها في عصر من العصور أو في تجربة ما من تجارب الأمم.
ومنذ البدايات الأولى لظهور مبدأ العدالة، كان لمفهومها معنيان متداخلان، أولهما يشير إليها باعتبارها نسقاً للقيم والمثل الأخلاقية ومحوراً جامعاً للفضائل الإنسانية، وثانيهما يشير إليها باعتبارها مجموعة الإجراءات المؤدية إلى معرفة الحق والكفيلة بتوصيله إلى صاحبه ضغيفاً كان أو قوياً.
وعلى مر التاريخ ظهرت تعريفات متعددة لمفهوم العدالة، قال بها الفلاسفة والحكماء، أو وردت في الكتب السماوية التي أنزلت على الأنبياء والمرسلين، أو نادى بها قادة الإصلاح وزعماء الثورات، ولسنا هنا في معرض تناول المفهوم في تطوره المعرفي- التاريخي، فقط نشير إلى أنه كان محوراً رئيساً من محاور الفكر الإنساني، وقيمة مركزية من تعاليم الإسلام الحنيف، ومبدأ أساسياً من مبادئ التقدم الحضاري والإنساني في تاريخ أمتنا الإسلامية.
بل إنه يمكن القول باختصار إن العدالة كانت- ولاتزال بغض النظر عن زيادة الاهتمام بها أو تراجعه- جوهر بناء المجتمع المدني وتطوره في مختلف الخبرات الاجتماعية والحضارية.
وفي العصور الوسطى كان من رأي القديس توما الإكويني أن العدالة هي التي تمنح القانون قوته، وبقدر ما يكون القانون عادلاً يكون قوياً، وعلى الجانب الآخر- في الحضارة الإسلامية- كان الفارابي يرى أن "العدالة" هي المبدأ الأسمى للحاكم وللمحكوم في المدينة الفاضلة استناداً إلى قول الله تعالى في القرآن الكريم: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء/ 58) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/
.
وفي العصور الحديثة- ابتداء من عصر الإصلاح في أوروبا- احتلت العدالة مكانة بارزة في أعمال الفلاسفة وكبار المفكرين من أمثال هوبز، ودافيد هيوم، وبنثام، وتوكفيل، وغيرهم وصولاً إلى جون رولز الذي يعتبر من أواخر أشهر العلماء الذين قدموا إسهاماً أصيلاً في مفهوم العدالة، وذلك في كتابه الصادر سنة 1972 بعنوان: A Theory of Justice.
ثانياً: جوهر العدالة ومقوماتها الأساسية
العدالة في جورها هي إعطاء كل ذي حق حقه وفقاً لمبدأ "تكافؤ الفرص" بين المواطنين كافة بقطع النظر عن أي اعتبارات تتعلق بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، أو باعتقاداتهم المذهبية أو الدينية، أو السياسية. أما الحديث عن تكافؤ الفرص في ظل أوضاع مختلة اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً فهو حديث لا معنى له، كما أنه لا معنى- في مثل تلك الأوضاع- للحديث عن المساواة أمام القانون.
- مقومات العدالة
وإذا كان "تكافؤ الفرص" هو جوهر "العدالة"- على النحو السابق ذكره- فإن لهذا الجوهر مقومات واقعية من المفترض وجودها حتى تتوافر البيئة المناسبة لإعمال مبدأ العدالة، ومن أهم تلك المقومات: المقوم الاقتصادي الذي يعني توفير الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة الكريمة، ويعني كذلك وضع سياسة عامة للثروة القومية من حيث طرق إكتسابها وكيفية التصرف فيها، وحق الدولة في التدخل لتحديد الملكية، وإعادة توزيع الثروة بطريقة عادلة.
ومن مقومات "العدالة" أيضاً المقوم القانوني الحقوقي، الذي يضمن الحقوق الخاصة للمواطنين في نصوص واضحة ومعلنة- تجاه بعضهم البعض، وتجاه الدولة ذاتها، طالما كانت منضبطة بأحكام القانون، وسارية في مساراتها الشرعية.
ومن مقومات "العدالة" كذلك، المقوم الفكري الأخلاقي، الذي تغذيه ثقافة تحض على التكافل وتعلي من شأن التعاون، وتنمي الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وتؤكد على فضائل احترام الغير، ومراعاة حقوقه المادية والمعنوية- ومسؤولية توفير مثل هذه الثقافة لاتقع على جهة واحدة، أو مؤسسة دون غيرها من مؤسسات التنشئة الفكرية والثقافية، بل هي مسؤولية كافة الجهات والمؤسسات، وإلى جانبها كل المفكرين وقادة الرأي والمبدعين والفنانين، وبهذا المعنى تصير ثقافة العدالة هي ثقافة الحرية، لأن العدل والحرية قيمتان تنبعان من أصل واحد، فالعدل والحرية هما في بناء قلب الإنسان وفكره ووجدانه وإرادته، بناء لامجال فيه للظلم والاستبداد.
وبكلمات أخرى، فإنه لا عدالة في ظل خضوع الفرد للفقر، أو للقهر، أو لإنكار حقوقه الأساسية تحت أي ذريعة من الذرائع، ولا عدالة- كذلك- في ظل ثقافة تغذي عوامل التفرقة والتمييز والحط من كرامة الإنسان.
ثالثاً: المستويات التطبيقية للعدالة
"للعدالة" أكثر من مستوى تطبيقي في الحياة الاجتماعية، ويمكن التمييز بين ثلاثة مستويات رئيسة لها وهي:
1- المستوى الاجتماعي- السياسي العام، حيث تصير العدالة قيمة حاكمة للحركة السياسية وللممارسة الاجتماعية، وتكون محل إجماع عام من كافة القوى والاتجاهات المؤثرة في تسيير شؤون المجتمع، ويصير الالتزام بها عنواناً على وجود مجتمع عادل، ونظام عادل وسياسة عادلة.
2- المستوى الفردي الخاص، حيث تصير العدالة محوراً للسلوك الفردي، وإطاراً مرجعياً عاماً لضبط تصرفات الأفراد ومواقفهم تجاه بعضهم البعض، فيكون الفرد عادلاً في ممارسة حقوقه، وعادلاً في أداء واجباته.
3- المستوى المؤسسي، حيث تكون العدالة إحدى أبنية النظام السياسي والاجتماعي القائم، وهي تتمثل- في هذه الحالة- في مجموعة من القوانين، والإجراءات، والمؤسسات، والوظائف، التي تكون مهمتها الأساسية تطبيق أحكام القانون.
إن العدالة في هذا المستوى تصير مرادفة للسلطة القضائية، وتكون هي الآلية التي عن طريقها يتم حسم المنازعات، واستيفاء الحقوق من مغتصبيها، وردها إلى مستحقيها.
وثمة تقسيم آخر لمستويات العدالة يتلخص في التمييز بين العدالة الإجرائية (القانونية) من ناحية، والعدالة الموضوعية، التي تشير إلى معايير تنظيم الحقوق وتوزيعها- من ناحية ثانية، والعدالة في بعدها التنفيذي من ناحية ثالثة، حيث يتعين على الدول- أو السلطة العامة- أن تتدخل لصالح الفئات المحرومة، أو غير القادرة على الوصول إلى حقوقها، أو تلك التي يحال بينها وبين حقوقها لأي سبب من الأسباب.
ويثير موضوع تدخل الدولة لتحقيق العدالة كثيراً من الإشكالات ذات الطابع القانوني والسياسي، وبخاصة أن هذا التدخل عادة ما يتم تحت شعار "تحقيق العدالة الاجتماعية" التي تصير – في هذه الحالة- مرادفة لجملة السياسات والإجراءات التي تتخذها السلطة الحاكمة بإسم الدولة بهدف تقريب الفوارق بين الطبقات، وحصرها في حدودها الدنيا، وإعادة توزيع الثروة، ودعم عديد من الخدمات والسلع وجعلها في متناول القطاعات العريضة من المواطنين.
وبهذا المعنى- السالف ذكره- فإن العدالة الاجتماعية تعني السعي لتمكين المواطن من حماية آدميته، حيث يتوافر له الحد الأدنى للكفاف الاقتصادي والمعيشي، كما تعني أيضاً إحترام الوجود الذاتي لمختلف التكوينات الاجتماعية، وهنا تتداخل مضامين العدالة الاجتماعية مع مضامين العدالة السياسية، ويصعب- في الواقع- الفصل بين هذه وتلك.
وإذا رجعنا الآن إلى مفهوم العدالة في التراث الغربي- إجمالاً- فسوف نجد أنه يستمد معناه التطبيقي من كلمة "القانون" وذلك على المستوى الإجرائي العملي دون الحديث عن المستوى المعرفي الفلسفي، وكلمة القانون في أصلها اللاتيني واليوناني تعني "القيد" أو الميثاق" الذي يحكم مسيرة الكيان الاجتماعي، ومن ثم فإن العدالة تعني ما هو مطابق للقانون- وهذا ما سبقت الإشارة إليه بالعدالة الإجرائية أو الشكلية- وأساس هذا المعنى هو أن التشريع، أو الإرادة الشعبية قد تبلورت في شكل نصوص معلنة، ووضعت في صيغة قانون أو مجموعة قوانين، هي ملخص للعلاقة بين ما هو "حق" وما هو "عدل" من وجهة ،نظر الجماعة التي صاغت تلك القوانين في مجتمع ما، وفي لحظة تاريخية معينة.
ولكن هذا المفهوم "الشكلي" للعدالة قد تطور خلال القرن التاسع عشر- بصفة خاصة، وأدخلت عليه أبعاد موضوعية، هي التي أشرنا إليها فيما سلف عند الحديث عن ضرورة تدخل الدولة- أو السلطة العامة- تدخلاً إيجابياً لصالح الفئات الاجتماعية المحرومة أو العاجزة عن حماية حقوقها، أو الحصول عليها، وقد تطورت الأوضاع داخل المجتمعات الرأسمالية- ناهيك عن المجتمعات الاشتراكية- وتبلورت السياسات التدخلية للدولة من خلال عديد من "التشريعات الاجتماعية".
- عدالة الإسلام
أما بالنسبة لمفهوم العدالة كما كشف عنه الممارسة في الخبرة التاريخية العربية الإسلامية، فقد قام على أساس الاعتدال وعدم التطرف، والسعي لتحقيق التوازن والاستقرار داخل الكيان الاجتماعية حتى ولو أدى ذلك إلى تدخل الدولة بما يكفل تحقيق هذا التوازن، وحسم كل ما يثور من عوامل الإخلال والسعي- كذلك- لتوفير الشعور بالاستقرار، والمعرفة المسبقة بالحقوق والواجبات، ثم إشاعة الطمأنينة بمعنى إحترام الحقوق المكتسبة، وتحقيق ما لم يتحقق للفئات غير القادرة، وضمان أكبر قدر ممكن من السلام الاجتماعي، وذلك بإزالة مصادر التوتر في شتى مرافق المجتمع.
وفي ضوء ما سبق نخلص إلى أن "العدالة" بمفهومها العام، والعدالة الاجتماعية- بشكل خاص- تتطلب وجود ثلاثة أسس حتى يمكن تطبيقها في أرض الواقع الاجتماعي بمختلف مرافقه الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والثقافية والتعليمية وقد فصَّلها الشهيد سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام، وخلاصتها كالتالي:
1- التحرر الوجداني: إذ لن تتحقق عدالة إجتماعية ما لم تستند إلى شعور نفسي لدى كل فرد "مواطن" باستحقاقه لها، وبحاجة الجماعة الوطنية بأسرها إلى العدالة، وبالاعتقاد بأن إعلاء شأن العدالة يؤدي إلى واقع إنساني أسمى من الواقع القائم المليء بالمظالم، ولن تتحقق العدالة- كذلك- ما لم تستند إلى أوضاع مادية تهيئ للفرد "المواطن" أن يتمسك بها، ويتحمل أعباءها ويدفع- عن رضا- تكاليفها، ويدافع عنها، وبعبارة أخرى فإن العدالة الاجتماعية لن يستحقها المواطن بالتشريع قبل أن يستحقها بالشعور، وكلما كان هناك إيمان لدى المواطن بتشريع العدالة وبالعمل وفقاً لمقتضياتها كانت الجماعة الوطنية أقدر على صيانة هذا التشريع وتطوره بإستمرار إلى ما هو أفضل.
2- المساواة، والمقصود بها ليس المساواة بين كافة المواطنين بالمعنى المادي للكلمة، وإنما المقصود هو المساواة في الحقوق والواجبات وأمام القانون، وحين تستند المساواة إلى تشريع عادل، وتنفيذ منضبط لهذا التشريع، فإن الشعور بها سيكون أقوى عند الضعيف وعند القوي في آن واحد، إنها تستحيل في الضعيف تسامياً، وفي القوي تواضعاً، وهما يلتقيان معاً في حدة المجتمع، وتكامله، ومن ثم يصير جوهر المساواة هو الجمع بين الحق والكرامة والمعاملة الواحدة.
3- التكافل الاجتماعي، حيث إنه مع الحرية الفردية وحق التملك، والمساواة، هناك أيضاً المسؤولية الفردية، في مقابل الحرية الفردية- وهناك المسؤولية الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها، فالمواطن الفرد لا يعيش بمفرده، وكذلك فإن الجماعة الوطنية ليست مجرد حاصل جمع أفرادها، بل هي أعم من ذلك وأعمق، إذ هي تجسيد للمصالح المشتركة، وللهوية الواحدة، وللكيان الجماعي الذي يتضمن داخله مصالح الأفراد والجماعات ويضمن المحافظة عليها، وصيانتها في إطار من القيم العليا المشتركة التي تكون محلاً لما يطلق عليه الإجماع الوطني، وفي مقدمتها قيمة العدالة الاجتماعية