إيناس صباح مهنا
يرتبط مفهوم المعاصرة بمفهوم الأصالة جدلياً، فلا يقال "اصالة" إلا ويقال "معاصرة"، والعكس صحيح. والمعاصرة صنف من الحركات التطورية (التقدّمية) في المجتمع- كما يذهب إلى ذلك الحبابي- وهي تختلف عن "الموضة"، وإن "لفظ عصري مشتق من عصر، فالعصري ما ينسب إلى عصر. وبما أن كلّ الناس عاشوا أو يعيشون في عصر ما، فكلهم عصريون". وهذا يختلف عن المعاصرة فهي- وكما يقول الحابي- قبل كلّ شيء "تفتح على حصيلة المعارف والفنون والتقنيات، وعلى الأفكار التي تسود الفترة المعيشة". وقد ارتبط مفهوم "المعاصرة" بالمثل أو الشكل الغربي للحياة (أو الغرب)، حتّى أصبح الأخذ بهذا المثل وتقليده يسمّيان "معاصرة". ولكن هل تقليد الغرب يتيح للعرب والمسلمين التقدّم والنهوض بحضارتهم؟ وهل يعني تقليد الغرب أن نتبعه في طريقة لبسه وحياته وتصرفاته؟ أم الإستفادة من منجزاته العلمية والتقنية في بناء الحاضر (حاضرنا) والإعداد لمستقبلنا؟ وهل الأخذ من الغرب أو تقليده أو التأثر به يعني نسيان تراثنا وأمجادنا ومنجزاتنا الحضارية والثقافية؟ كلّ هذه الأسئلة يجيبنا عنها الدوري وفق منهجه التاريخي القومي الإنساني ورؤيته الحضارية الثاقبة.
فهو يرى أنَّ الغرب وصل إلينا في صور متعدّدة ومتنوعة، ولا يمكن تحديد موقف الذات العربية من الغرب لأنّها- بحسب تعبيره- مشكلة معقّدة لا يمكن أن نصل إلى حلول نهائية ومحدّدة بشأنها "لأن الغرب لا يمثل ثقافة واحدة، بل مجموعة ثقافات، وبخاصة عندما يتصل الأمر بالإنسانيات وبالدراسات الإجتماعية والتطورات السياسية. ولكن هذا لا ينفي وجود أصول مشتركة، وهي التراث اليوناني- الروماني والمسيحية والحركة العلمية، هذا إضافة إلى ثورات تالية، كالثورة الصناعية والثورة الفرنسية".
وقد حدّد الدوري أربع صور الغرب وصلت إلى الشرق بطرق متعدّدة، هي:
- جاءت صورة الغرب إلى الشرق العربي- الإسلامي في صيغة المبادئ القومية والثورة الفرنسية أولاً وقبل السيطرة الإستعمارية على الشمال الأفريقي، ثمّ المشرق العربي (الغرب الحداثوي الصناعي).
- جاء الغرب في صورة الإستغلال المادي والسيطرة السياسية، والعسكرية للشرق، ومحاربة أو مكافحة الحركات التحررية فيه (الغرب المستعمر).
- جاء الغرب إلى الشرق، وهو منشقّ على نفسه، فأدهش الشرق بقواه وقدراته المادية والعسكرية، وولّد في الوقت ذاته ردّ فعل شديداً ضده نتيجة نظرته الإستغلالية (الغرب المزدوج).
- جاء الغرب إلى الشرق بصحيفتين متناقضتين، فهو يريد تغريبه وصهره في الحضارة الغربية، ولكنه لا يقرّه على النهضة الفكرية والإقتصادية، لأنّّه يريد تجريده من كيانه وتراثه وشخصيته العربية- الإسلامية من جهة، ولا يريده نداً وخصماً له، وهذا مطلب غير ممكن لأنّه يهدم نفسه بنفسه (الغرب الذي يكيل بمكيالين، أو الغرب الذرائعي).
أما عن مواقف الجماعات في الشرق العربي- الإسلامي من الغرب- بصوره المتعدّدة- فهي متباينة، ولا سيما أننا لا نملك أن نختار بين الأخذ بـ "المثل" أو النموذج الغربي المعاصر الذي فرض نفسه علينا بقوة كنموذج عالمي حضاري جديد للعالم كله، أو تركه والإتجاه إلى التراث وحده دون المعاصرة، فمنها من انبهر بقوة الموجة الغربية "وبمظاهر ترفها وازدهارها المادي، وبين نافر منها نفرته من وجهتها ومن الخطر العسكري والسياسي، وهناك من انجرف بتيارها ناسياً شخصيته وإرثه، ومن تمسّك بشخصه وتراثه عن علم أو عن عاطفة".
لقد ظهرت عدة مواقف في الشرق العربي- الإسلامي، إزاء الخطر الغربي الذي يهدّد كيانه، فهناك إتجاه إسلامي (ديني)، وإتجاه عربي قومي، وإتجاه مغترب مكاناً- فضلاً عن اتجاهات أخرى غيرها. وهذه الإتجاهات هي:
أ- الإتجاه الإسلامي (أو الوجهة الإسلامية): وتمثلت في حركة جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده، والحركة السلفية، وحركة الإخوان المسلمين، وهذه الوجهة "تدعو إلى مبادئ الإسلام الأولى وخلقه وثقافته، وتدعو إلى نفض الخمول والترسبات" التاريخية التي علقت في الذاكرة العربية.
ب- الإتجاه العربي (أو الوجهة العربية): وتمثلت في الحركات القومية، وهي تستند إلى "لغة العرب وثقافتهم وأدبهم، وتتغنى بمجدهم وتريد استعادته، وتدعو إلى تجديد اللغة، وإلى إحياء الأدب والثقافة العربية، وإلى تجديد الشخصية التاريخية للأمة العربية".
ت- الإتجاه المغترب مكاناً: وتمثل في الدعوة إلى أخذ ثقافة الغرب وعلومه ونظمه وتقليده دون قيد أو شرط. وقد انتقد الدوري هذا الإتجاه بدعوى أنّه نسي أو تناسى أنَّ الموجة الغربية "تتصل بجذور محلية إن قُطعت لم تزدهر، وناسياً أنّها ستصطدم بجذورنا هنا، ولا يمكن لها أن تستقر معها كغطاء خارجي إلا إذا أضعنا كلّ شيء وانتقلنا إلى صورة هي لا شيء"، قياساً إلى ذخيرتنا الحضارية العريقة. وكلما ازدادت الصلة بالغرب ازداد الوعي الذاتي، وتعمّق ردّ الفعل، واتسعت دائرة تأثيره.
ث- الإتجاه التوفيقي: ومثلت هذا الإتجاه مجموعة كبيرة من المفكّرين والمثقفين في العالم العربي- الإسلامي، ممّن يرون ضرورة أخذ خير ما في الحضارة العربية- الإسلامية، وخير ما في الحضارة الغربية، "والتوفيق بينها في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة" (الإتجاه التوفيقي).
ويأخذ الدوري على هذا الإتجاه عدم توضيحه لمقياس الخير، ونسيانه- بحسب قوله- أنّه ليس خارج نطاق هذا الصراع الحضاري (بين الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد)، بل إنّه جزء من مادة هذا الصراع، وقد يفقد إمكان الإختيار متى دارت العجلة، بحسب ما يقول الدوري.
ويتساءل الدوري: هل نستطيع القول إن الحضارة الغربية قابلة للتجزئة؟
مجيباً عن هذا السؤال بالنفي، قائلاً: "إنَّ الحضارة الغربية بنواحيها المختلفة تكوّن وحدة منبثقة من الأصول المشتركة تحدوها مبادئ مشتركة، وهذا يجعل كلّ فرع منها متأثراً بهذه المبادئ والأصول، ومن العسير أن نرسم خطوطاً أو خططاً تحدّد الأجزاء التي تؤخذ والأجزاء التي تترك بصورة دقيقة".
فلا يمكن فتح بعض الأبواب وسدّ غيرها أمام الجيل الحديث- كما يقول (على أساس انتخابي= انتقائي).
المصدر: كتاب منطق الحضارة عند عبدالعزيز الدوري