* خالد غزال
لا تزال الأسئلة المتعلقة بالتنوير والتقدم وتجديد الخطاب الديني وحقوق الإنسان تستثير تحفظات قوى سياسية وفكرية متعددة المشارب في العالم العربي. يركز بعض الاعتراضات على مصدر هذه المقولات، أي الغرب. فيما ترى اعتراضات أخرى عدم ملاءمة هذه الأفكار لواقع مجتمعاتنا وتقاليدها وثقافتها، وبالتالي هويتها.
تعود معظلة العلاقة بين العالم العربي والغرب إلى أكثر من قرن. منذ نهاية القرن التاسع عشر، طرح رواد النهضة هذه العلاقة وعاجلوا جوانبها الإيجابية والسلبية. يفرض تخلف العالم العربي مجدداً نقاش هذه العلاقة بصفتها واحدة من الضرورات التي تدخل العرب إلى العلم والتقدم والنهضة.
يتسم نقاش هذه العلاقة بوجهتين غالبتين تحمل كل منهما أخطاء في تعيين البوصلة والهدف. تنحو وجهة أولى إلى تحميل الغرب مسؤولية التخلف في العالم العربي من خلال غزوه الاستعماري ونهبه ثروات المنطقة، ومساندته أنظمة استبدادية، وتركيبه أنظمة وسلطات قبلية وعشائرية وطوائفية. أدى هذا المسلك إلى تشويه للثقافة العربية وحضارتها وساهم في طمس الهوية. يشدد أصحاب هذه الوجهة على أن الغرب مستمر في ممارسته السابقة وبشكل أكثر فظاظة ووحشية مما سبق، ويتخذ حجة محاربة الإرهاب لإعادة الاحتلال العسكري إلى المنطقة. تحمل هذه النظرة قوى ذات تأثير وفاعلية، تتمتع بشعبية واسعة. تعبِّر الحركات الأصولية المتطرفة وبعض القوى السياسية والتقليدية عن هذه الوجهة.
في مقابل هذه الرؤية، ترى قوى أخرى أن العالم العربي سيظل محكوماً بالـتأخر إذا ما ظل أسير انكفائه وعزلته، يرتبط خلاصه وتقدمه بالاندماج بالغرب، علماً وفكراً وثقافة وقيماً. يستحيل تحقيق المشروع النهضوي العربي من دون مكتسبات الثورة العلمية والتكنولوجية واستقدامها. ولا يتورع أصحاب هذه النظرة عن تسويغ التدخل الغربي بما فيه إسقاط الأنظمة تحت عنوان إدخال الديموقراطية وتحقيق التقدم وسيادة حقوق الإنسان. لذا تؤيد المعركة المفتوحة ضد الإرهاب والحركات الأصولية التي تمثل ارتداداً على عمليات التحديث التي كان العرب قد حققوا بعضاً من منجزاتها خلال القرن الماضي.
لا تنطلق وجهتا النظر المشار إليهما من فراغ. تحمل النظرة المتحفظة عن الغرب مبررات ذات أساس تاريخي وراهني أيضاً، كما يكتسب القول بحاجتنا إلى الغرب، بصفته عنصراً مهماً في تقدمنا، شيئاً من الحقيقة. إن إقامة علاقة مركبة مع الغرب تميز بين ما هو مفيد لنا فنسعى إلى استقدامه، وما هو غير مفيد فنتصدى لمواجهته، قد تسمح بالوصول إلى علاقة موضوعية، بعيدة عن العقد والأوهام، تصبّ في النهاية مصلحة العرب ومشروعهم النهضوي.
بدايةً، لابد من الاعتراف بأن القضأيا التي تواجهنا في شأن الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومواجهة الاستبداد وتحقيق الإصلاح الديني ومكافحة الأمية والفقر والبطالة وإدخال العلم والتكنولوجيا، وسيادة العقلانية في التفكير، ومحاربة الفكر الإرهابي والتكفيري، هي قضايا راهنية وملحة وتطرح على العرب تحديات في الوصول إليها وتحققها. لا ينال من ذاتنا الاعتراف بتخلفنا وعجزنا عن مواجهة هذه المعضلات، والقول تالياً إن انكفاءنا على ذاتنا واستحضار ما لدينا من علوم وفكر وتراث ودين يكفيان لإخراجنا من عنق الزجاجة الذي نقبع داخله. ويشكل الإقرار بتأخرنا ودراسة أسبابه التاريخية، والإقرار أيضاً بضرورة التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى واحداً من عناصر الخلاص الضرورية. عاشت أوروبا منذ خمسة قرون حالة مشابهة لما يعيشه العرب اليوم، إن لم تكن حالة أكثر تخلفاً ووحشية. ولم تجد أوروبا آنذاك ضيراً في أن تنهل من مكتسبات الحضارة العربية- الإسلامية التي كانت تعيش أوج ازدهارها، فانكب الأوروبيون على مؤلَّفاتنا الفلسفية والعلمية وترجموها إلى لغاتهم، مما ترك أثراً لا يزال واضحاً في النهضة الأوروبية وفي تطور الحداثة في القرون اللاحقة.
يحتاج العالم العربي اليوم مكتسبات الحداثة الغربية، أميركية أكانت أم أوروبية أم يابانية... يحتاج إلى التكنولوجيا وثورة الاتصالات والتطور الصناعي، كما يحتاج أيضاً إلى ثقافة الغرب وفكره وحريته وديموقراطيته، إلى الإنسان المواطن الفرد، إلى العقلانية وحرية الرأي في مواجهة الخرافات. يفيد العرب في هذا المجال التمثل باليابان التي خضعت لاحتلال أميركي بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يمنعها من استعادة قواها عبر توظيف علوم الغرب إلى أقصى حد، بما جعلها اليوم إحدى القوى الرئيسية المنافسة للولايات المتحدة وأوروبا. لا يستطيع العالم العربي ممارسة هذا الانفتاح إذا ظل محكوماً بـ "عُصاب الهوية" والخوف على ثقافته من التهميش والزوال، كما يحتاج العالم العربي إلى ممارسة حد واسع من النقد والنقد الذاتي لمشروعه النهضوي المنتكس، وقراءة علمية للتراث الموروث لتعيين ما بقي منه حياً وصالحاً فيوظف في النهضة، والتخلي عما تجاوزه الزمن وبات يشكل عائقاً أمام التقدم.
تكتسب مواجهة الغرب بما هو هجمة استعمارية بالتحديد الأهمية نفسها التي تتطلبها ضرورة اللقاء والتواصل معه. عانى العالم العربي على امتداد القرن العشرين وطأة الحملات الاستعمارية والسيطرة على بلدانه، وتركت السيطرة الإمبريالية على المنطقة العربية آثاراً سلبية وعميقة. استولت على معظم الثروات وبخاصة النفط، واصطنعت أنظمة وكيانات سياسية تقوم وظيفتها في حماية المصالح الاستعمارية. مثل تحقيق المشروع الصهيوني وإقامة دولة إسرائيل أخطر مراحل هذه السيطرة. تسببت إسرائيل في حروب خارجية وداخلية في العالم العربي، وكانت ولا تزال من أسباب إدامة التخلف ومنع تحقيق التقدم في المجتمعات العربية. وستظل سياستها العدوانية وعدم اعترافها بالحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، إضافة إلى ممارسة إرهاب الدولة، مصدراً لانعدام الاستقرار في المنطقة وعنصراً أساسياً في انبعاث الإرهاب وازدهار العنف والتطرف.
منذ عقدين من الزمن، عادت المنطقة العربية لتشكل هدفاً استعمارياً يحمل من المخاطر أكثر بكثير مما حمله المشروع الاستعماري في القرن السابق. يشكل احتلال العراق وعودة الاستعمار الأميركي المباشر إلى المنطقة منذ حرب الخليج عام 1991، أكثر المظاهر الاستعمارية فظاظة، خلافاً متجدداً يستهدف ثرواتها الطبيعية والسيطرة على كياناتها، متوسلاً وسائل متعددة تبدأ بالاحتلال المباشر للأرض، وتمتد إلى تفتيت المنطقة وتقسيمها وإدارة حروب أهلية طائفية وإثنية وعشائرية بين مكوناتها ومجتمعاتها، ما يعني أن موجبات المقاومة العربية ضخمة جداً. بمقدار ما تحتاج هذه المقاومة إلى وجود قوى عسكرية، إلا أن الأساسي في المواجهة الراهنة والمقبلة قد يكون في استنهاض مشروع عربي حضاري يطاول جميع الميادين العلمية والسياسية والفكرية والاقتصادية، وذلك كشرط لمواجهة هذه الهجمة.
في ظل هذه الوضع المعقد والمركب، يظل السؤال مطروحاً وبحدة عن إمكان العرب في خوض معركة مزدوجة قومها الإفادة من الغرب ومكتسباته إلى أقصى حد، ومواجهة حملته الاستعمارية في الوقت نفسه تحت عنوان معركة الاستقلال والسيادة.
يحتاج العرب إلى التخلص عن ميل لديهم إلى اعتبار أنفسهم ضحايا مؤامرات محاكة دائماً ضدهم، وأن يتجاوزوا بشكل نهائي مقولة: "الغرب غرب والشرق شرق، ولن يلتقيا". وهو قول لايزال يمسك بتلابيب الحاضر العربي على رغم مرور أكثر من قرن على إعلانه.
المصدر: كتاب المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات الحداثة المُركبة