* د. عبدالكبير الخطيبي
1) الفرضية الأولى:
تتمثل المهمة الأساسية للسوسيولوجيا في العالم الثالث في القيام بعمل نقدي مزدوج:
أ. "تفكيك المفهومات" Deconstruction الناتجة عن المعرفة السوسيولوجية والكتابة السوسيولوجية اللتين كانتا تتكلمان بإسم العالم العربي ويغلب عليهما الطابع الغربي وإيديولوجيته المتمركزة على الذات.
ب. وفي الوقت ذاته نقد للمعرفة والكتابة السوسيولوجية اللتين أنجزتهما مختلف مجتمعات العالم العربي حول ذاتها.
نقصد إذاً حركة مزدوجة منسقة نرى أنها وحدها قادرة على تجاوز مجرد الإعادة والتكرار وتفتح أمام رجال علم الاجتماع إمكانية عملية أقل استلاباً وأكثر تكيفاً مع خصوصية الموضوع المطروح.
ماذا نريد بقولنا "تفكيك المفهومات" Deconstruction؟ إن هذه المفهومات وقائع تاريخية وتأخذ بنيتها بالنسبة لتفكير خاص وأحداث معينة في الزمان والمكان. وتندرج في كتابات لها منطقها الخاص وتنمو بالاستعارات التي يأخذها علم من آخر وحسب، ولكن أيضاً بواسطة مجموع تحولي بين التاريخ والعلم والإيديولوجيا. والمفهومات والكتابات تترابط ولكن نلاحظ أنها في كل مرة تأخذ صورة نظرية، وبطانة إيديولوجية تهيمن عليها. ويفيدنا علم الإشارات Semiologie أن كل كتابة هي تداخل وترابط بين عدة نصوص Intertextualite، هي مجموع تحولي بين عدة نظم اصطلاحية، من المفهومات، والكتابة السوسيولوجية لا تخرج عن هذا التحديد. وكما أن نمطاً من الانتاج لا يستطيع أن يسيطر على أنماط الانتاج الأخرى لتكوين مجتمعي ما إلا بقدر ما يظل موجوداً معها، كذلك الكتابة السوسيولوجية لا تمحو أبداً الكتابات السابقة من دون أن تدمجها في حيزها الخاص، تدمجها بتجاوزها.
غير أننا نجد أن العلوم الاجتماعية قد نمت وتطورت في الغرب، وهو تطور معاصر للتسلط الامبريالي.
فإذا تقبلنا هذه النسبة التاريخية فماذا سنفعل؟ يجب علينا أن نستخلص بعض النتائج، أولها: يجب أن نعيد النظر من جديد في التاريخ والمعرفة لا بالنسبة لمركز أو أصل (الغرب) كما كنا نفعل من قبل ولكن لما يسميه عالم اجتماع مصري: "عقلانية ذات متغيرات متعددة". وغير خاف أن أقوى سيطرة (على مستوى المعرفة) هي التي تجعل المسيطر عليه يصل إلى الاعتقاد أو التفكير بأن نقطة ومركز وأصل كلامه هو نفس نقطة ومركز وأصل المسيطر.
هذه النسبة التاريخية الثقافية ستكون أهميتها ضئيلة بالنسبة لنا إذا لم تسمح لنا بأن نحيط، على أحسن وجه، بصلاحية بعض الفرضيات العلمية. لنأخذ مثالاً على ذلك: في الدراسة النمطية التقليدية تنزع الماركسية إلى تصنيف المجتمعات في حالة ما قبل الاستعمار ضمن نمط الانتاج الآسيوي. (الاهتمام من جديد بموضوع كهذا هو أمر له مغزاه). لكن هذا المفهوم ذاته مبهم وغامض لا يمكن أن يطبق على العدد العديد الذي لا يحصى من المجتمعات. ففي مجتمع واحد قبل الاستعمار كالمغرب نميز بين عدة أنساق في الصراع: النسق الأبوي، القبلي، الرأسمالية الحرفية، نسق الأسياد، النسق المخزني مع العلم أن هذا النسق كان هو المسيطر. نعتقد بأن من الواجب التخلي عن الدراسة النمطية في السوسيولوجيا لأنها تخفي وراءها ميتافيزيقيا "الكليات" Totalite في حين أننا نود أن نقضي على تمركز المعرفة الغربية وننزعها شيئاً فشيئاً عن ميتافيزيقيتها الأرسطية.
هناك فرضية فرعية تسمح لنا بأن نزيح أول عائق لهذه السيطرة العلمية. وبما أنه لا توجد سوسيولوجيا في ذاتها أو كتابة سوسيولوجية في ذاتها فمن اللائق أن نقوم بالنقد المزدوج الذي تكلمنا عنه. لا تدفعنا إلى ذلك ضرورة استراتيجية علمية إيديولوجية فحسب ولكن أيضاً لأن التاريخ ذاته هو أثر لحركة مزدوجة: فالشمولية والخصوصية تقومان بلجم حركة النمو التاريخي.
لنأخذ مثالاً حتى نوضع الجانب الثاني من النقد المزدوج: نعرف أن الفكر العربي المعاصر لا يمكن أن يتخلص من أسسه الدينية والثيوقراطية التي تطبع إيديولوجية الإسلام. فنحن نلاحظ، من دون عناء، أن النزعة التوفيقية تهيمن عليه: يتعلق الأمر في بعض الحالات بتعبير تغفله المفهومات الميتافيزيقية. والسوسيولوجيون العرب والمستشرقون يستعملون غالباً مفهوم العصبية المأخوذ عن ابن خلدون. لكن هذا المفهوم يتضمن رؤية دورية للتاريخ، رؤية العودة الأبدية، فكيف يمكن لتفكير جدلي أن يدمج فيه مفهومات ضد الجدلية؟ هل من السهل أن نضع مفهوم العصبية ضمن مفهوم صراع الطبقات لأن الجدال الضمني هنا هو بالرغم منا جدل حول التناقض بين أونتولوجيا دينية وأونتولوجيا تاريخية، بين إيديولوجيا أساسها لاهوتي وإيديولوجيا ترى الطبقات المجتمعية موضوعاً للتاريخ. إن الممارسة الوطنية العربية تعيش مأساة هذا التناقض سواء في السياسة أو المعرفة.
في كل سوسيولوجيا نجد إيديولوجيا موازية لها، تعبيراً مقنعاً عن عدة كتابات ونقلاً غامضاً للمفهومات من تراث معرفي إلى آخر. هذه الإشكالية يعلن عنها بوضوح ج. دريدا J. Derrida في ما يتعلق بالاثنولوجيا: "الاثنولوجيا، ككل علم، تتولد داخل عنصر الكتابة، إنها أولاً علم أوروبي يستعمل مفهومات تقليدية، وبالتالي سواء شاء الاثنولوجي أم أبى، إذ لا يتعلق الأمر بقرار من طرفه، فإنه يضم في كتابته مقدمات التمركز حول الذات Ethnocentrisme في اللحظة نفسها التي يعلن فيها رفضه لها. هذه الضرورة لا يمكن إزاحتها فهي ليست احتمالية تاريخية، يجب أن نتمعن فيها بكل متضمناتها. ولكن إذا لم يتهيّأ لأي عالم أن يتخلص منها وإذا لم يكن أحد مسؤولاً عن الخضوع مهما ضعف هذا الخضوع، فهذا لا يعني أن كل الرضوخ لها يجب أن تكون بالملاءمة نفسها.
إن نوعية وخصوبة كتابة ما قد تقاس بالنقد الدقيق الذي يتناول به الفكر علاقة الاثنولوجيا بتاريخ الميتافيزيقا والمفهومات الموروثة. نقصد هنا علاقة نقدية للغة العلوم الإنسانية، ومسؤولية نقدية للكتابة. نريد أن نضع بوضوح وبمنهجية مشكل مقومات كتابية تستعير من تراث ما المصادر الضرورية لتفكيك هذا التراث ذاته. أي أن المشكل هو مشكل اقتصاد واستراتيجية.
اقتصاد، استراتيجية. هذا توضيح آخر للنقد المزدوج، توضيح يسمح لنا بأن نميز من جهة المفهومات التي لها قدرة ابستمولوجية يمكن تحيينها. ومن جهة أخرى المفهومات التي يجب أن نصنفها في تاريخ المعرفة ليس إلا. فالتحليل، هنا، ضروري لكي نتحكم في كل مجهود لإعادة التأويل، في المدى الذي يكتسب فيه المفهومات الناتجة عن معرفة المجتمعات المسيطر عليها وعن العلوم الاجتماعية الغربية، معنى تاريخياً وصدقاً ابستمولوجياً.
2) الفرضة الثانية:
الكتابة السوسيولوجية ككل كتابة فنية، ممارسة (خاصة في كل مرة) للتاريخ، والعلم والإيديولوجيا.
يجب أن نضع مقابل الكتابة الانعكاسية التي ترى اللغة العلمية تصوراً منقولاً عن الواقع، فكرة كتابة عرضية على ثلاثة مستويات:
- التاريخ: الكتابة تأخذ بنيتها بالنسبة إلى وقائع مادية وبالنسبة لمؤسسات اجتماعية (جامعات، شركات، نقابات، أحزاب...).
- العلم: كل كتابة تحاول أن يكون لها أساس بصفتها لغة مستقلة لها منطقها الخاص في سيرها وتحولها.
- الإيديولوجيا: تكون في ثنايا كل لغة علمية، كتابة موازية. فاستعمالنا مثلاً لمفهومات العالم الثالث، أو مجتمعات نامية أو العوالم الثلاثة Tricontinental لا يتطابق مع اختيار مفهومات إيديولوجية متماثلة، بخاصة في السياسة. ففي حالة نامية نعني إيديولوجية تقنوقراطية تقيس التقدم بمعايير كالتصنيع، المردود، الانتاجية، والدقة. وفي الحالة الثانية (العالم الثالث Monde – Tiers) يمكن القول إننا نلح على مفهوم السيطرة في حين أنه في الحالة الثالثة (العوالم الثلاثة Tricontinental) نلمس اختياراً ثوروياً واضحاً: هذا المفهوم يلح على السيطرة بقدر ما يلح على التضامن المؤمل بين هذه البلدان للقضاء عليها. إذاً، في كل كتابة سوسيولوجية، اقتصاد واستراتيجية.
الكتابة السوسيولوجية لا يمكن أن تكون في رأينا إلا ممارسة عنيفة تأخذ على عاتقها التاريخ والإيديولوجيا والعلم. يجب إذاً أن نحقق قطيعة عنيفة مع السيطرة الثقافية الغربية، وتتجاوز قوتنا القاصرة، إذ ليس هناك قول بريء بل على كل قول أن يجيب بطريقته الخاصة عن شعلة الحياة.
يجب إذاً أن نفكر في الآخر ضمن مجال تفكيرنا الخاص. وقد يعترض علينا: ذلك مستحيل: لأن استعمالكم للعلوم الاجتماعية الصادرة عن الغرب وأرضيتها الفلسفية سيجعلكم تنساقون في طريق مجموع نظري لستم متمكنين منه وسيسهل ضياع الثقافة العربية بل أسوأ من ذلك سيؤدي إلى سيطرة أقوى وأدق.
إنكم تحاربون سيرورة التقليدية Traditionalisation والمعرفة الغربية Occidentalisation، معتمدين على ابستمولوجيا خطرة تقصي المعرفة العربية داخل ماضٍ إيديولوجي.
المعرفة العربية الراهنة هي بدون شك تشابك صراعي بين معرفتين إحداهما (غربية تسيطر على الأخرى، وتعيد تكوينها من الداخل وتجعلها، بطريقة ما، غريبة عن ذاتها لأنها تقتلعها من أرضيتها الفلسفية والميتافيزيقية بحيث أصبح معها العالم العربي متبحراً في المعرفة الغربية لا يعرف من أي مكان يتكلم، ومن أين تأتي المشكلات التي تقلقه. لكن المعرفة العربية لها بعض الاستقلال الذاتي، على الأقل من حيث اللغة. وليس هذا بالقليل ما دامت كل قولة لغوية تأخذ صيغتها بحسب المنطق وبحسب بنية نظام اصطلاحي Code لغوي خاص.
تؤدّي هذه الوضعية الغامضة (التي يجب أن ندرسها بتفصيل يوماً ما) إلى نتيجة أولى: رجل العلم العربي يصبح أساساً المعبر والمترجم عن مجموع نظري ومنهجي تكون في لغة وبلد آخرين يكاد لا يدرك، في غالب الأحيان، التجذر الفلسفي ونوعيته التاريخية لهذا المجموع. وهو يشعر بالانسحاق تجاه الانتاج للآخر. وبعملية تراكم سريع فيكتفي، منزوياً في ظل المعرفة الغربية، بإقامة معرفة ثانوية، مختنقة به وبالآخر، وفوق كل ذلك آثمة لأنها لا ترضي أحداً.
إن كل شيء يهتز نظرياً، ما إن ننزع القناع عن مسألة هذا الصراع. وعندما يوقف العالم العربي نظرياً عملية التراكم هذه، ويتفرغ ليصوغ مقوّمات وقوانين نشاطه، فيعي أن عليه أن يبدأ كل شيء من البداية، أي أنه حينما يتمكن بعمق من المعرفة الغربية يرى أن الأمر لا يدعو إلى تبني وترجمة هذه المعرفة فحسب ولكن في الوقت ذاته أيضاً تحليل تكوينها، وتحولها، وانقطاعها في المجال التاريخي. مع العلم أن كل نظرية هي نسق للتفكير ناتج عن التاريخ وأساسه التفكير ذاته، شريطة ألا نراه مجرد حركة في خط مستقيم (المذهب التطوري وخلافه) ولكن كنسيج من العلاقات بين مجموعات من الأحداث، تستمدّ تلاحمها الوحيد من نسق تفكيرها الخاص بنا، لا من العراء والانكشاف الوهمي للحدث.
وتظل أمامنا مهمات صعبة في المعنى الثاني الذي تحيلنا فيه العلوم الاجتماعية إلى مبادئ أساسية (حقيقة، عقل، موضوعية...) أقل ما نقول عنها إنها تنتمي إلى رؤية ميتافيزيقية وفلسفية. ونسيان اللحمة بين الفلسفة والعلوم يعني التمسك بالعمل في العماء. وعلى رغم هذا تظل تلك الاثباتات البدهية المشار إليها مبعدة ومرفوضة باسم وضعية ساذجة.
ولا يعني هذا أننا سنقوم بنقد الغرب نيابة عنه ولكن المقصود أن نفصل ونبين مقومات العلوم الاجتماعية ضمن اشكاليتنا نحن، وعلى كلٍ فالمعرفة الغربية مدروسة من الداخل من خلال قوى التجاوز واللاتمركز وتبرز لنا طبقاً لنموذجية متناقضة وصور متنوعة، مرسومة هي ذاتها في إطار الصراع المجتمعي. لكي نبسط هذا التحليل المختصر يمكن إبرازه في ثلاثة أنماط من النظريات:
- نظريات تنظيمية: تجعل إيديولوجية التمركز حول الذات مشروعة مع الإعلان في الوقت نفسه عن نزهة شمولية ونزعة انسانية مجردة تبعد وتنكر جدلية الخصوصي والشمولي، وجدلية الهوية والاختلاف.
- نظريات نقدية: تدخل في قلب المعرفة الغربية تزحزها مفهومياً عن المركز، وتغييراً للأرضية الفلسفية التي تقوم عليها. على رغم أنها لا تستطيع الانفلات من قيم ثقافتها (وكيف لها ذلك؟)، ونأخذ هذه النظريات في اعتبارها التباعدات الفروقية، والتباينات بين المجالات الثقافية، وخلاصة القول فإنها تؤسس مبدأ (الاختلاف) كعنصر حاسم في كيان الابستمولوجيا.
- نظريات مائلة: بالمعنى الذي لا تبرز فيه مباشرة إيديولوجية التمركز حول الذات وتظل منفتحة على التحول.
هذا التحليل في المستويات الثلاثة إنما هو خطاطة تحليلية. ولم نشأ أن نرتب مختلف فروع المعرفة الغربية في كل خانة من الخانات الثلاث، ذلك أن نظرية معينة يمكن أن تنتقل من مستوى إلى آخر (أو تمر بها كلها) لأسباب تتعلق بالتحول الداخلي أو الارتباطي، ولأسباب تتعلق بالتغير التاريخي. والاستشراق من الفروع التي تركز انتباهها على التغاير الثقافي، وقد ساعد الغرب على التخلص من بعض الأحكام الخاطئة، ولكن سرعان ما تحول إلى مجموع إيديولوجي يبرر العرقية الذاتية وذلك بتجميده الثقافات الأخرى في إطار الأثرية التقليدية، التي تحن إلى القيم التي فقدها الغرب. وقد اهتم الاستشراق بوجه خاص باللغة واللاهوت وهيأ بطريقته الخاصة الإشكالية السلفية بحيث نستطيع الانتقال من الاستشراق إلى السلفية (والعكس صحيح) من دون وجود موضوع مهم ومن دون وعي واضح، ذلك أن الوعيين بانعكاس أحدهما على الآخر، ينتهيان إلى تهدئة صراعهما بطريقة لعبة المرآة.
والمعرفة عند الغرب ليست كلاً متجانساً، ولا كياناً متعالياً مركزاً حول الاشكالية نفسها وموضوعات التحليل نفسها. إنها مقعرة من كل ناحية بفعل الفوضى التي تصاحب كل تحول تاريخي وعلمي.
كذلك المعرفة العربية الحالية، فأرضيتها التنظيمية (التقليدية) هي مجموع تركيبي يشمل سواء اللاهوت أو الفلسفة العقلانية أو التصوفية، أو العلوم العلمية، أو المعرفة الخاصة بالثقافة العربية أي الأدب. وإيجابية مختلف هذه المعارف تقابل وعياً تاريخياً متطوراً الآن بالرغم من أن كتاباتها ما زالت تتسم بالحيوية.
هذه المعارف تخفي الفقر النظري بواسطة عملية تكرار ما أنتج. فعدد كبير من الباحثين العرب يعملون من دون وعي واضح في هذا التراث "محولين الوثائق إلى آثار" Les Documents en Monuments كما يقول الفيلسوف ميشيل فوكو (Foucault). فكيف يمكن معالجة ومباشرة هذه المعرفة؟
يجب أولاً أن نقطع كل صلة بالمحاولة المترتبة على تقديس التراث، تلك الحجة التي تسعى إلى تعمية الوعي النقدي، عن طريق عودة وهمية إلى مجد غابر، وحنين نكوصيّ.
والنقد المزدوج المطلوب هنا يجد موقعه الاستراتيجي في:
1- تقليص المفهومية الميتافيزيقية الناتجة عن المصدرين معاً: المصدر الغربي (يوناني في نهاية المطاف) ومصدر الثقافة العربية (وقد ألححنا على هذه النقطة).
2- أن نعيد التفكير في مقومات وإيجابية العلوم الاجتماعية الرائجة على ضوء إدراك مختلف للتاريخ، ليس بصفته فراغاً يضيع خطواتنا إما في تاريخية تقدس الماضي وإما في محاكاة رعناء. (وغالباً ما تتعايش الحركتان في الوعي الممزق نفسه). نريد التاريخ بصفته ممارسة نقدية لما يحدد وجودنا هنا. والآن. وإذا حررنا مشكلة التاريخ فمعنى ذلك أننا سنزعزع دعائم النظام المسيطر للمعرفة الحالية. من المعلوم أن لا فائدة من المرور ثانية بطريقة أو بأخرى بكل المراحل التي مرّ بها الفكر الغربي، كذلك لا جدوى من الاعتقاد بإمكانية عقد صلة متكاملة مع المعرفة القديمة. وإذا سبرنا غور كلتا المعرفتين وأعدنا التفكير في سياق مسيرتهما التاريخية والمجتمعية، فليس معنى ذلك أننا سنبعث المعرفة الغربية ونحاول تقليص الحيوية، التي لا مجال للشك فيها للمعرفة الأخرى.
وإذا وضعنا هذه العملية في حيز التعليق فذلك يعني أننا سنضع أسس كتابة جديدة من البديهي أنها لن تتم برمتها بين ليلة وضحاها، ولكن بفضل صبر لا متناهٍ سنستطيع تفكيك الأغلال النظرية التي تنتشر حولنا وفينا. وهذه مهمة لا نهاية لها من دون شك، مع العلم أن في ميدان المعرفة لا يوجد مكان للمعجزات وإنما انقطاعات نقدية.
3- الفرضية الثالثة:
إن النقد المزدوج يؤدي إلى إعادة تشييد بنيان العلوم الاجتماعية ولا نريد هنا أن نقترح تصنيفاً جديداً لهذه العلوم: ذلك أن هذا النوع من الأعمال يظل عادة مجرد ملتمس لا جدوى منه، وغالباً ما يظل خارج المسيرة التاريخية. وبالعكس يمكن أن نعين بدقة توجيهاً ما، ونفكر في اختيارات حاسمة في ضوء هذه الإشكالية. ذلك أن المعرفة العربية الحالية تعمل على هامش المعرفة الغربية لا في داخلها إذاً، فهي تابعة لها ومحدودة بها. ولا خارجها لأنها لا تفكر – الخارج الذي هو أساس لها. هذا الهامش يتخذ في الحقيقة مظهر حدّ أعمى.
فالنقد المزدوج يكمن بالتالي في معارضته المعرفة الغربية عن الخارج مع "تنظيرها" أي وضعها في نظريات، ليس إلا، أو بتعبير آخر أن نضع ترتيباً تدريجياً للأقطاب الاستراتيجية.
أ. إذا أعطينا الامتياز للتاريخ (كما حددناه أعلاه) ضد كل معرفة لا تعدو أن تكون مجرد مزامنة فذلك سيؤدي إلى اندثار الاثنولوجيا (حتى نقتصر على هذا المثال فقط).
لماذا نطالب لهذا الاندثار؟ ليس لأن الاثنولوجيا في نهاية التحليل ظاهرة مرتبطة بالاستعمار والامبريالية فحسب (وهذا شيء بديهي) ولكن أساسها النظري مشبوه هو أيضاً. وفي الواقع هل يمكن دراسة (الآخر) كنظرة صرف؟ إنني لا أرى عيني الآخر فحسب "بل أرى أيضاً أنه ينظر إليّ" كما يقول شللر. وبتعبير فلسفي، تنطوي جدلية الأنا والآخر على كل تواصل، كل رغبة، في حين أن الاثنولوجيا تطرح موضوعاً وهمياً في تحليلها للتماثل والاختلاف، فبعكس ذلك نجد ليفي ستروس على رغم اعتقاده بأن من بين العاملين على تغيير الاثنولوجيا لا يعدو أن يرجع موضوع تحليله إلى الفلسفة والسيميولوجيا.
إن المثال الوحيد للاثنولوجيا يطلعنا على أننا لم نُصَفَّ حسابنا بعد مع مقومات العلوم الاجتماعية ومقومات كتاباتها. يجب إذاً أن نعمل على توسيع مجال هذا التفكير مع العلم أن كل سوسيولوجية لا يمكن أن تتخلص من التاريخ. وقد سبق أن حذرنا ماركس: "إننا لا نعرف سوى علم واحد هو علم التاريخ".
ب. هذا يفترض أيضاً أولوية الكتابة السوسيولوجية التاريخية ضد كل شكل من أشكال المذهب الوظيفي الذي يسيطر بقوة على العلوم الاجتماعية كما نعرف.
ج. يصبح إذاً من الضروري وفي أسرع وقت أن ننشئ أجهزة من المفهومات ندركها بحسب النظام الاصطلاحي الخاص باللغة العربية. وترتبط السيطرة الثقافية بالسيطرة السياسية والاقتصادية على رغم أن كل سيطرة لها أحكامها الخاصة وحركتها الخاصة. وطالما لم يعمل العربي على تنمية بحث أساسي باللغة العربية فإنه سيظل منغمراً في آلية الترجمة. وهذا لا يعني أبداً إهمال أو جهل اللغات الأجنبية بل بالعكس نعتقد بأن لغة علمية جديدة بالعربية لا يمكن أن تتقدم إذا لم تدمج في كتاباتها فروق النظم الاصطلاحية المتعلقة بلغات أخرى.
المصدر: كتاب النقد المزدوج