* دراسة بقلم: د. أحمد فؤاد باشا
البيئة والباءة والمباءة في اللغة العربية أسماء بمعنى المنزل الذي يأوي إليه الإنسان أو الحيوان ويقيم فيه، وهي مشتقة من الفعل "بوّأ" بتشديد الواو، فيقال: أباءه منزلاًً وبوّاه فيه، بمعنى هيأه له وأنزله ومكَّن له فيه قال تعالى: (وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالَحاتٍ لَنُبَوّئَنّهُم مّنَ الجَنّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خالِدِينَ فِيهَا نَعْمَ أجْرُ الْعَامِلِينَ) (العنكبوت/ 58)، وتوصف هيئة التبيؤ وحاله بالحسن أو السوء، فيقال: إنه لحسن البيئة، أو إنه باء ببيئة سوء.
"والبيئة" Environmentفي العلوم الكونية مصطلح يتسع مدلوله ليشمل مجموع الظروف والعوامل الخارجية التي تحيط بالكائنات، وتؤثر في العمليات الحيوية التي تقوم بها، ويرتبط مدلول مصطلح "البيئة" بنمط العلاقة بينها وبين مستخدمها، فرحم الأم بيئة الإنسان الأولى، والبيت بيئة، والمدرسة بيئة، والحي بيئة، والوطن بيئة، والكرة الأرضية بيئة، والكون كله بيئة، أي أن بيئة الإنسان تكبر وتتسع مع نموه واتساع خبراته ونشاطاته، فبيئة ما قبل الولادة عبارة عن موقع يعيش فيه الإنسان جنيناً، ويستمد منه مقومات نموه ويتأثر بالبيئة الخارجية من خلال تأثر أمه بها، ومن المألوف أن تشاهد أحياناً ملصقات طبية تحمل شعار "حافظوا على بيئة الإنسان الأولى" تحت رسم تخطيطي يمثل الرحم مع توصيات بالاعتناء بالغذاء والإقلاع عن التدخين واستشارة الطبيب قبل تناول العقاقير الطبية.
"البيئة ليست موارد يتخذ منها الإنسان مقومات حياته فقط.. ولكن تشمل علاقات الإنسان الاجتماعية وفق القيم والأخلاق والدين"
وفي هذه البيئة الأولى تتحدد صفات الإنسان وفق ما يغترف من ثروة "الجينات" التي هي "البيئة الوراثية" لذا فإن العناية في اختيار الإنسان لزوجه أصبحت من العوامل التي يجب مراعاتها لتحسين النسل وتفادي العيوب الوراثية.
أما بيئة ما بعد الولادة، فتتدرج من البيت إلى الحي إلى المدرسة، ثم الوطن والكرة الأرضية كلها، من خلال وسائل الاتصال المختلفة، ثم الكون كله، وهو البيئة الكبرى للإنسان، فالطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض باستمرار وانتظام هي الأساس في كون الأرض بيئة صالحة لبقاء الحياة واستمرارها، على أن الإنسان في هذا التدرج لا يكون معزولاً في بيئة معينة ولا يتأثر بغيرها، فكوكب الأرض يتأثر بمكونات الكون الأخرى.
وهذا يعني في الواقع أن هناك بيئة كبرى واحدة تتمثل في الكون بأسره، وما يحدث في جزء منه يؤثر في الكل، إلا أن العلم في اهتمامه بالجزئيات، ينطلق من البيت والأرض لتحديد إطار البيئة الشامل وفهم معناها، لأن النظرة الكلية الشاملة مرة واحدة إلى بيئة الإنسان الكبرى متمثلة في الكون بأسره من شأنها أن تقود إلى متاهة كثيرة القنوات تضيع فيها فرصة فهم المعنى الحقيقي للبيئة، وهذه واحدة من أهم المشكلات التي يواجهها الإنسان في التعامل مع البيئة وقضاياها، ويمكن أن تعالجها فلسفة التربية البيئية بهدي من تعاليم الإسلام.
من ناحية أخرى، يمكن النظر أيضاً إلى تعريف "البيئة" من خلال الأنشطة البشرية المختلفة، فتقول: البيئة الزراعية، والبيئة الصناعية، والبيئة الاجتماعية، والبيئة الثقافية.. إلى آخره؛ ذلك لأن شخصية الإنسان ومسلكه واتجاهاته والقيم التي يؤمن بها في بيئة ما بعد الولادة تحددها أنماط التفاعل مع عناصر ومكونات هذه البيئة، بما فيها من يمثل بني جنسه، فالبيئة ليست مجرد موارد يتجه إليها الإنسان ليستمد منها مقوّمات حياته، وإنما تشمل "البيئة" أيضاً علاقة الإنسان بالإنسان التي تنظمها المؤسسات الاجتماعية والعادات والأخلاق والقيم والأديان، وإغفال هذه المعاني عند تعريف "البيئة" يزيد من تفاقم مشكلاتها، ذلك أن الاقتصار على التفسير المادي للبيئة يعوق أي جهد يبذل لتقديم الحلول الشافية لمشكلاتها, وهنا مرة ثانية يمكن أن تتدخل "الرؤية" الإسلامية، بهدي من تعاليم الإسلام الحنيف، القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، لتصحيح النظرة المادية للبيئة، وتصويب الأخطاء التي وقع فيها الإنسان، ومداواة الخلل الذي أحدث في منظومة العلاقة بينه وبين البيئة "الكون".
"مسؤولية البيئة من المنظور الإسلامي يتحملها الإنسان دون غيره من المخلوقات لأن الله سخر له الكون يخدمه و ينتفع به"
- التلوث البيئي
علم البيئة، أو الإيكولوجيا من العلوم البيئية الحديثة التي تتجاذبها اختصاصات علمية متعددة (طبيعية وإنسانية)، وهو يعنى بالبحث في العلاقات المتبادلة بين الكائنات والبيئة المحيطة بها، ويتتبع أسباب الخلل الذي يحدث في التوازن البيئي للنظم البيئية ليقف على تأثيراته المباشرة وغير المباشرة، ويحذر من أخطاره العاجلة والآجلة، ويدل على أفضل الطرق لمكافحة التلوث والقضاء عليه، وهكذا نجد أن علم البيئة "الإيكولوجيا" يتضمن مفهومين مهمين يحتاجان إلى إيضاح:
أ- أما المفهوم الأول: فيتعلق بمصطلح النظام البيئي، ويطلق على أية وحدة تتكون من كائنات حية ومكونات غير حية تتفاعل مع بعضها البعض لتكون نظاماً مستقراً في إطار التوازن الكوني الشامل الذي قدره الخالق سبحانه وتعالى لقوانين البيئة المحكمة وموازينها الدقيقة، فالصحراء والواحة والنهر والبحر كلها أمثلة لنظم بيئية محدودة، وأكبر النظم البيئية التي نعرفها في الكون هو ذلك الحيز الذي تظهر فيه الحياة على سطح الأرض، مشتملاً الإنسان والحيوان والنبات، ويعرف باسم الغلاف "أو المحيط" الحيوي، وكل شيء في شبكة الغلاف الحيوي مرتبط بكل الأشياء الأخرى، والخلل الذي يحدثه الإنسان في مكان ما يمكن أن يسبب تأثيرات ملحوظة في أماكن أخرى قريبة أو بعيدة، بصورة فورية وعاجلة أو متأخرة وآجلة، أي أن النظم البيئية لا توجد بمعزل عن بعضها البعض.
"افتقار البشرية للبعد الإيماني في العلاقة مع البيئة وفق المنهج الإسلامي قادها إلى الانشغال بثورة العلم دون الفطنة إلى سلبياته"
والتوازن القائم الذي وضعه الله سبحانه وتعالى بين مختلف عناصر البيئة يمكن ملاحظته في كثير من الأشياء التي تقع حولنا، مثال ذلك، ما يقوم به النبات من امتصاص لغاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء لاستخدامه في صنع غذائه بواسطة عملية "التمثيل الضوئي" التي يتولد منها غاز الأكسجين كناتج ثانوي تستهلكه الحيوانات المختلفة في عملياتها الحيوية، وفي الحصول على الطاقة اللازمة، وتطلق بدورها غاز ثاني أكسيد الكربون ليبدأ دورته من جديد، وإذا تأملنا النظام البيئي الأكبر في محيط الأرض الحيوي لوجدنا أن كل ما فيه من ماء وهواء ويابسة وطاقة ومخلوقات حية يشكل كلاً متكاملاً يتميز باستمرارية الأخذ والعطاء في اتزان معجز ودقيق.
ب- وأما المفهوم الثاني: فيتعلق بمصطلح التلوث الذي يعني علمياً وجود أي مادة أو طاقة في غير مكانها وزمانها المناسبين بكميات غير ملائمة لاستمرار التوازن البيئي. فالماء يعتبر مادة ملوثة إذا ما أضيف إلى التربة بكميات كبيرة، فيحل محل الهواء فيها ويسبب اختناق جذور النبات، والسماد المضاف إلى التربة الزراعية لتحسين خصوبتها يكون ملوثاً إذا أضيف بكميات غير مناسبة، والنفظ يلوث رمال الشواطئ ومياه البحار والأنهار عندما يتسرب إليها.
وهكذا يشمل تعريف "التلوث" كل ما يكدر أو يفسد أياً من عناصر البيئة، سواء كان هذا العنصر كائناً حياً كالإنسان والحيوان والنبات، أو مكوناً طبيعياً غير حي كالهواء والماء والتربة وغيرها.
فهناك، على سبيل المثال، كميات هائلة من الطاقة الحرارية التي تنطلق إلى الجو مباشرة من المصانع، ومحطات توليد الكهرباء التقليدية والنورية، وحرائق الغاز الطبيعي في مناطق البترول ومصافي تكريره، والمراجل (الغلايات) المتنوعة، ومراكز تحلية مياه البحر، وأماكن التفجير النووي، ووسائل النقل، ومختلف أجهزة الاحتراق الداخلي والخارجي، وغير ذلك من الآلات الحرارية والنووية، ناهيك عن تزايد ما يسمى بتأثير البيت الزجاجي "أو الصوبة، أو الاحتباس الحراري" الذي يؤدي إلى ارتفاع مستمر في درجة حرارة الغلاف الجوي نتيجة لزيادة غاز ثاني أكسيد الكربون بسبب احتراق كميات هائلة من وقود الفحم والنفظ والغازات الطبيعية، ويتوقع العلماء أن يفضي هذا التأثير بحلول عام 2030م إلى ارتفاع في درجة حرارة الجو يتراوح بين حوالي درجتين وأربع درجات مئوية، وبالرغم من أن هذا الارتفاع المتوقع يبدو ضئيلاً، إلا أن أثره سيكون كبيراً على تغيرات الطقس العام وما يتبع ذلك من حدوث أخطار تهدد مصير الكائنات الحية على الأرض؛ فدفء الطقس. على سبيل المثال. يؤدي إلى زيادة حدة الجفاف والرطوبة في بعض المناطق، ويعمل على تفاقم مشكلات التصحر وتأكل التربة الزراعية وإرهاقها في وقت قصير جداً نسبياً، بالإضافة إلى احتمال إذابة قدر من جليد المناطق القطبية وارتفاع مستوى سطح الماء في البحار.
وهناك أيضاً تزايد مستمر في معدلات التلوث بالمواد الكيميائية والإشعاعات النووية والأمواج الكهرومغناطيسية والضوضاء وغيرها.
وهذا بالإضافة إلى ما تتضمنه كلمة "تلوث" من معنى معنوي عندما تدل على تغير ينتاب النفس فيكدرها أو الفكر فيفسده أو الروح فيضرها، وهذا التغير يكون دائماً إلى ما هو أسوأ، أو يكون تغييراً من أجل غرض ما.
وهكذا وجد الإنسان نفسه متورطاً في الانشغال الزائد بثورة العلم والتقنية دون النظر إلى آثارها الضارة على مختلف عناصر البيئة، بما في ذلك حياة الإنسان ذاته، وتعالت صيحات التحذير من أخطار التلوث البيئي التي تصيب الحرث والنسل، وكان أهمها انعقاد أكبر مؤتمر قمة عالمي في تاريخ البشرية في مدينة "ريودي جانيرو" بالبرازيل في يونيو عام 1992م، للنظر في المشكلات البيئية التي تهدد سلامة الإنسان وحياته على كوكب الأرض، والاتفاق على معاهدات تنظم واجبات الدول في مواجهة مختلف أشكال الخلل البيئي، وتلا ذلك بعد عشر سنوات انعقاد قمة الأرض الثانية في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا في الفترة من 26 أغسطس حتى 4 سبتمبر عام 2002م لوضع ضمانات ما يسمى "بالتنميه المستدامة" ومواجهة التهديدات الخطيرة المتعاظمة التي تهدد الجنس البشري والمتمثلة في تدهور النظم البيئية الحيوية التي تدعم الحياة على كوكب الأرض، وفي استهلاك الموارد الطبيعية بمعدلات أسية تتجاوز الحد الذي يسمح بالحفاظ على استدامتها، وفي اتساع الفجوة بين عالم الأثرياء الذين يزدادون غنى وعالم الفقراء الذين يزدادون فقراً.
ولكن الضوابط والمعاهدات الدولية التي توصل إليها المجتمعون لم تحقق حتى الآن التوازن المطلوب بين الطموح الإنساني علمياً وتقنياً واقتصادياً من جهة، وبين المحافظة على نظافة البيئة وسلامتها وتحقق التنمية المستدامة من جهة أخرى، لأنها وضعت بمعزل عن القيم والمبادئ الإيمانية الهادية التي تعول قبل كل شيء على رقابة الضمير الذي يحترم القانون الإلهي لخير الناس أجمعين، فليس التلوث الذي تعاني منه البشرية اليوم في مختلف النظم البيئية سوى مظهر من مظاهر الفساد في الأرض الذي جلبه الإنسان لنفسه، وصدق الله العظيم حيث يقول: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ والْبَحرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدي النّاس لِيُذيِقَهُم بَعَْضَ الِّذِي عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/ 41).
والبيئة الصحيحة التي يتصالح فيها الفكر مع الواقع، في كنف الإيمان الخالص، هي الأقدر على بناء صرح الحضارة المتوازنة وفق قيم وتشريعات حكيمة تنظم الحياة في كل جوانبها ومرافقها.
"التوازن الرباني الدقيق بين عناصر البيئة جعل ن الماء والهواء واليابسة والطاقة والكائنات كلاً متكاملاً يتميز باستمرارية الأخذ والعطاء"
إن البيئة من المنظور الإسلامي مرتبطة بتحمل الإنسان- دون غيره من المخلوقات- لأمانة الاستخلاف في الأرض، وترقية الحياة عليها حتى يستكمل حكمة الله من خلقه وخلقها، وبعد أن سخَّر له كل ما في الكون من نعم ظاهرة وباطنة ليندفع بها ويمجد بانتفاعها رب العالمين، ولا يكون الإنسان جديراً بحمل الأمانة إذا أساء استعمال النعم المسخَّرة له، أو تصرَّف فيها على نحو غير مشروع، استسلاماً لأنانية مقيتة، فالأرض بخيراتها وثرواتها مسخرة لخدمة البشر جميعاً. قال تعالى: (وَالأَرْ ضَ وَضَعَهَا لَلأنَام) (الرحمن/ 10)، والإنسان مطالب بالعمل على إظهار عظمة الخالق عن طريق الانتفاع الإيجابي بكل المسخرات، قال تعالى: (هُوَ أنشَأَكُم مّنَ الأَرْضَ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..) (هود/ 61)، أي جعلكم عُمَّاراً تعمرونها وتسكنون بها، وهذا لا يتأتى. بحكم الإسلام. إلا بأمرين أولها: أن تبقي الصالح عل صلاحه ولا تفسده، والثاني: أن تصلح ما يفسد وتزيد إصلاحه، ولا شك أن في الأمرين خير ضمان لحماية البيئة وسلامتها، وتحقيق التنمية واستدامتها.
إن افتقار البشرية لهذا البعد الإيماني والشعور النفسي القائم على المعرفة الصحيحة لطبيعة العلاقة بين الإنسان والبيئة، كما يعرضها المنهج الإسلامي المتفرد، هو الذي يدلها على طبيعة الحرب التي شنها الإنسان على نفسه في غمرة انشغاله بثورة العلم والتقنية دون أن يفطن إلى آثارهما السلبية، فهي حرب ضد الحياة والتنمية على كوكب الأرض، وضد حقوق الأجيال القادمة، والإنسان المتورط فيها هو ذاته الذي يسعى جاهداً لأن يكسبها، ولكن هيهات هيهات!! (إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب/ 72).