* د. أحمد عيسى
20 مليون شخص يفقدون وظائفهم بنهاية العام الجاري بسبب الأزمة المالية
وسط ركام الأزمة المالية العالمية، ثار بركان لا يقل خطراً عن إفلاس البنوك.. بركان يعصف بالمجتمعات والأسَر والأفراد، وهو بحق كارثة اجتماعية بدأت نُذُرها قبل وقوع الأزمة؛ ولكنها استفحلت، وتنذر بحمم من اليأس والاكتئاب والانتَحار والتفكك الاجتماعي.. إنه فَقْدُ العمالِ وظائفَهم، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، بما يمثَّل تدميراً لقوى الإنتاج، ويضيِّع على الإنسانية أعظم مواردها.
وقد أدت العولمة من قبلُ إلى انتقال الصناعات إلى بلاد مختلفة، بحثاً عن شروط استغلال أفضل ومن أجل ربح أعلى، وضاقت سبل عيش الفقراء بسبب قلة فرص العمل، بالإضافة إلى تآكل التربة، وتلوث المياه، والتصحّر، والحروب، والأمراض، وزادت هجرتهم العشوائية التي هي أشبه بالرحلات الانتحارية التي يبددون فيها كل أموالهم، ويفقدون فيها أرواحهم!
- حجم الأزمة
وفي ظل استفحال الأزمة المالية العالمية تتوّقع منظمة العمل الدولية فقدان عشرين مليون وظيفة إضافية حول العالم بنهاية العالم الحالي؛ بسبب الأزمة المالية التي تعصف بالعالم. كما توّقع تقرير للمنظمة أن يصل عدد العاطلين عن العمل إلى 210 ملايين شخص، موضّحاً أن أربعين مليون شخص آخرين مهدَّدون بالفقر المدقع، وأنهم سيضُطرون للعيش بأقل من دولار واحد يومياً!
نسبة البطالة في الولايات المتحدة 6.5% وفي بريطانيا 5.8% وفي باقي دول الاتحاد الأوروبي 6.7%
وقال المدير العام للمنظمة "جوان سومافيا": إن هذه الأرقام تشير إلى أن الحكومات يجب أن تركز على مساعدة الأفراد وليس البنوك فقط، داعياً إلى بذل مزيد من الجهد لتأمين الوظائف والتصدي للأزمة الاجتماعية ومساعدة المتضررين من البطالة، وعدم التعامل مع الأزمة الحالية من المنظور مالي فقط؛ بل يجب مراعاة تأثيراتها على الأفراد والوظائف والمشروعات.
وطالب " سومافيا" الحكومات بتوسيع اهتماماتها لتشمل مساعدة الشركات في المحافظة على الوظائف، واقترح أن تركّز الحكومات على مساعدة الشركات الصغيرة؛ مما يساعد على خلق مزيد من الوظائف.
وطبقاً للمنظمة، فإن العاطل هو كل قادر على العمل وراغب فيه ويبحث عنه ويقبلة عند مستوى الأجر السائد ولكن دون جدوى، وبذلك فليس كل من لا يعمل عاطلاً. فالتلاميذ، والمعاقون الذين لا يستطيعون العمل، والمسنّون، والمتقاعدون، ومَنْ فَقَدَ الأمل في العثور على عمل، وأصحاب الأعمال المؤقتة، ومَنْ هم في غنى عن العمل لا يُعَدُّون عاطلين.
وتقول المنظمة: إن أرقام الملايين الذين هم في بطالة تامة، لا تعدو أن تكون مجرد جزء بسيط من المشكلة، فهناك أعداد كبيرة مضطرة إلى الاحتيال على العيش عن طريق الأشغال المؤقتة أو العرضية، والعمل للحساب الخاص ضعيف الإنتاجية، أو عن طريق أشكال أخرى من العمالة الناقصة والبطالة المقنّعة. والأرقام المحضة لا تظهر كل الحقيقة فكثيراً ما تكشف النظرة المتفحصة عن أن الأعمال متدنية النوعية والدخل تحل محلها، أو أن أعداداً كبيرة من العمال والنساء قد استُبعدت من الإحصاءات.
كما تمثل عمالة الأطفال مشكلة ملحّة من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، ومن ناحية حقوق الإنسان. وتعتقد المنظمة أن هناك 250 مليون طفل يعملون في أنحاء العالم المختلفة، وهم محرومون من التعليم المناسب، والصحة الجيدة، والحريات الأساسية. ويدفع كل طفل من هؤلاء ثمناً فادحاً؛ ولكن بلدانهم أيضاً تعاني من هذه المشكلة؛ وذلك لأن التضحية بقوة الشباب تُفقد الأمة قدرتها على النمو والتطور.
- مشكلة عالمية
وبدون العمالة المنتجة، يظل هدف بلوغ مستويات لائقة من العيش والتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق الذات أمراً من قبيل الوهم، وهناك خلاف حول السياسات الأقدر على خلق الوظائف؛ فالبعض يعتقد أن ذلك يتوقف على النمو؛ بينما يرى آخرون أنه يتوقف على مرونة سوق العمل، ويعتقد البعض أيضاً أن الحل يكمن في المهارات والقدرات البشرية، بينما يرى آخرون أنه يكمن في سياسات توضع من أجل تقاسم العمل المتاح.
وقد عادت البطالة إلى الظهور في بلدان شرق آسيا، وتواجه البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية في أوروبا الوسطى والشرقية مشكلات كبيرة تتعلق بسوق العمل، ويمكن أن يُلاحَظ أيضاً في أمريكا اللاتينية ارتفاعٌ في مستوى البطالة، وفي اكتساب العمل غير النظامي في آن واحد، ولا تزال مشكلات العمالة في أفريقا مستعصية على الحل.
كما ارتفعت نسبة البطالة في دول الاتحاد الاوروبي إلى 6,7% (في مارس 2008م قبل الأزمة)، وإلى 6,5% في الولايات المتحدة ليصل عدد العاطلين فيها إلى أكثر من 10 ملايين، 3 ملايين منهم خلال السنة الأخيرة، و600 ألف في شهر أكتوبر 2008م وحده، اما في بريطانيا فتُعَدُّ نسبة البطالة الأعلى منذ 11 عاماً؛ إذ وصلت النسبة إلى 5,8%، أي حوالي مليونَيْ عاطل.
أسباب البطالة في الوطن العربي: الفساد السياسي.. انتشار الأمية.. تدني المستوى التعليمي.. تخلف برامج التدريب.. عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
البطالة تقود الشباب إلى الكبت والإحباط وانتشار الزواج العرفي وتعاطي المخدرات وارتفاع معدل الجريمة.
وإلى حد كبير تأتي مشكلات العمالة الراهنة في شرق آسيا جرّاء التقلبات في الاقتصاد الكلي، وفي أوروبا بسبب ضعف أداء الاقتصاد.. وثمّة موجةٌ جديدة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تعيد تشكيل طريقة عمل بعض الناس ومعيشتهم؛ حيث تنشأ عنها مهنٌ جديدة مبعثرة جغرافياً، بينما تقضي على مهن أخرى، فالعمال الذين يتمتعون بالمؤهلات والقدرات المطلوبة يستطيعون الوصول إلى الأعمال المنتجة والمجزية، في حين يجد آخرون أن الأعمال المناسبة بعيدة دوماً عن متناولهم.
وقد تأثرت قطاعات عدّة تأثراً جذرياً بفعل العولمة، مع تفرق مراحل مختلفة من الإنتاج عبر البلدان والشركات الموردة.. وهناك عزوف من أصحاب المال عن الاستثمار إذا لم يؤدِّ الإنتاج إلى ربح كافٍ يلبّي طموحاتهم، كما أن استمرار الارتفاع في استعمال الآلات يستدعي خفض مدة العمل، وتسريح العمال.
- الدول العربية
ولم تكن البلاد العربية في منأىً عن الأزمة؛ إذ بلغ معدّل نسبة البطالة في الدول العربية 14% وهي من أعلى النسب في العالم على الرغم من النمو الاقتصادي الكبير الذي حققته الاقتصادات العربية في الفترة الأخيرة بفضل ارتفاع اسعار النفط والإصلاحات الاقتصادية التي أنجزتها كثير من هذه الدول، وذلك وفقاً لموجز التقرير الأول لمنظمة العمل العربية حول التشغيل والبطالة في الدول العربية الصادر في يوليو 2008م.
وقد كشف التقرير أن عدد العاطلين في الدول العربية وصل إلى 17 مليون شخص، وقال: إن البطالة كانت ظاهرة في عدد محدود من الأقطار العربية؛ لكنها أصبحت اليوم عامة دون استثناء، وخاصة بعد تراجع قدرة الحكومة والقطاع العام على التوظيف، كما أوضح التقرير أن المعدلات الأعلى في البطالة كانت بين الشباب؛ إذ بلغ هذا المعدل نحو 25%.
ودعا التقرير إلى ضرورة إقناع الجهات المعنية بالاستثمار والتخطيط الاقتصادي والتجارة والتعاون الدولي؛ بهدف منح أولوية للتشغيل ومكافحة البطالة. وفي هذا الصدد، يرى "دفيد بيل" رئيس تحرير صحيفة "ذا فايننشيال تايمز": "إن مشكلة إيجاد الوظائف لكثير من الشباب تحت سن الخامسة والعشرين، والذين يشكلون نحو نصف سكان العالم، ربما كانت أكبر مشكلة تواجه العالم، وإن خلق الوظائف مسؤولية مشتركة بين القطاع الخاص والأفراد والحكومات".
250 مليون طفل يعملون في أرجاء العالم المختلفة محرومون من التعليم المناسب والصحة الجيدة والحريات الأساسية!
وهناك أسباب مشتركة أدّت إلى تفشّي البطالة في العالم العربي، أهمها انتشار الأمية، وتدني المستوى التعليمي، وتخلّف برامج التدريب، وعدم مواكبة السياسة التعليمية والتدريبية لمتطلبات سوق العمل المتجددة والمتغيرة، كما أن هناك تراجعاً في دور الدولة في إيجاد فرص عمل بالحكومة، وانسحابها من ميدان الإنتاج، والاستغناء عن خدمات بعض العاملين تلبية للخصخصة، واستمرار تدفق العمالة الأجنبية الوافدة.
ولا يمكن أن ينسى المرء تأثير الفساد السياسي في توزيع الثروة، وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية في كل المجالات، وعدم دفع أموال الزكاة أو عدم استغلالها في محاربة البطالة.
نسبة البطالة في الدول العربية بلغت 14% وهي من أعلى النسب في العالم.. وعدد العاطلين 17 مليون شخص.
- آثار نفسية
حذرت منظمة الصحة العالمية من زيادة نسبة المصابين بالأمراض النفسية، وارتفاع عدد حالات الانتحار في العالم إثر الأزمة الاقتصادية، وأعلن عن تقرير قُدِّم للحكومة البريطانية مؤخراً من خبراء في الصحة النفسية، جاء فيه أن 50% ممن أثرت عليهم الأزمة المالية الحالية في "بريطانيا" يعانون من أمراض نفسية مقارنة بـ 16% من الجمهور، وطبقاً للمجلة الأمريكية للطب الوقائي فقد ارتفعت نسبة الانتحار بين الأمريكيين البيض مؤخراً بعد عشرة أعوام من انخفاضها، ويتوقع الباحثون ارتفاعاً أكبر خاصة في سن العمل، إذا استمرت معدلات البطالة في ارتفاعها الحالي.
أما في بلادنا العربية فقد أعرب علماء الاجتماع عن مخاوفهم من أنه عندما ينكث النظام في وعوده بتوفير فرص العمل، تسيطر على العاطلين حالة من الكبت والإحباط، فتزدحم المقاهي بهم، وينتشر الزواج العرفي، وتتدهور الأخلاق، ويُغيِّب بعضهم نفسه عن الواقع بتعاطي المخدرات، وينحرف بعضهم لارتكاب الجرائم أو التمرد انتقاماً من النظام.. ولأن العمل سبب قوي للشعور بالذات والقيمة والانتماء، فقد تصدّعت هذه الأمور في حس كثير من الشباب، مما يدفعهم إلى ترك الأوطان بأي طريقة