كمال عبداللطيف
يحمل الزوج المفهومي إسلام/ غرب دلالات متعددة ومركبة، تعكس تاريخ تكون صيرورة معقدة، تتداخل فيها عوامل تاريخية دينية سياسية أيديولوجية لا حصر لها، لدرجة استحالت فيها أمكانية مقاربة الموضوع، من دون إثارة حساسيات متعددة، لمصلحة هذا الطرف أو ذلك.
فكيف يمكن النظر إلى العلاقة بين الأثنين، خارج التراكم الحاصل في بنية العلاقة القائمة بينهما؟ وكيف يمكن إعادة المفهومين بما يسمح بتجاوز المخلفات المتربسة في قعر كل مفهوم؟
يقف المتهم بموضوع العلاقة بين الإسلام والغرب على أساليب متعددة في التوظيف الأيديولوجي للمفاهيم، حيث تطرح المفاهيم في حلبة الصراع، لدعم اختيارات ونبذ أخرى، وذلك خارج معطيات التاريخ الفعلي، ومقتضيات العلاقات الموضوعية والتاريخية.
ليست صيغة التقابل والتجافي في موضوع الإسلام والغرب جديدة، ولا تعتبر مقالة صاموئيل هانتنغتون حول صراع الحظارات، إلا نموذجاً للمحاولات المتأخرة، في باب مزيد من تعميق الخلاف بين الإسلام والاختيارات السياسية الأمريكية والغربية.
يعود التجافي إلى زمن بعيد، زمن ظهور الإسلام، فقد شكل الدين الاسلامي، منذ ظهوره، مشكلة لأوروبا النصرانية، وقد عرفت العلاقة بين عالم الإسلام (دار الإسلام) والعالم الأوروبي (أوروبا المسيحية)، أطواراً من الحروب ومعاهدات الصلح، وأشكالاً من التعاون والتلاقح، وأطواراً من المعارك أتخذت صوراً وأشكالاً لاحصر لها.
وقد كانت المعارك المتواصلة بين الطرفين لا تكتفي بالمظهر العسكري المادي، بل تتخذ لها أيضاً مظاهر ثقافية نفسية، وتوظف كثيراً من الآليات الذهنية لإصابة أكثر من هدف، أي بهدف الهيمنة المادية والهيمنة الفكرية بمختلف صورهما.
ويقدم سجل الفكر العربي المعاصر عشرات النصوص السجالية، المعبرة عن أبعاد الخلاف والاختلاف القائمة في التصور الاسلامي للغرب، ولإدراك الغرب للإسلام وعالم المسلمين.
إن صيغة الزوج المفهومي إسلام/غرب، تعد في نظرنا انطلاقاً من التمهيد السابق، صيغة ملتبسة وملغومة، فالتقابل فيها يتم بين مفهومين غير متكافئين نظرياً، ويصعب التفكير فيهما بنظرية متكافئة. الصيغة إذاً غير محادية، ليس لأنها تقابل بين مفهوم يحيل إلى عقيدة، إلى الإسلام باعتباره ديانة من ديانات الكتاب، ديانة تعلن أنها تصحح وتتدارك نواقص الديانات الأخرى، ومفهوم آخر يشير إلى فضاء جغرافي مشحون بدلالة حضارية تستند إلى التراث الإغريقي الروماني المسيحي، ثم تراث النهضة الأوروبية، منذ ما يزيد على أربعة قرون، ثم شملت قارات أخرى، تغربت بفعل تاريخ قسري، تمثل في الهيمنة الإمبريالية بمختلف النتائج التي ترتبت عنها.
فكيف يمكن التفكير في زوج مفهومي، يحيل إلى دائرتين نظريتين مختلفتين تماماً؟
يقرن مفهوم الغرب، في أدبيات الصراع الأيديولوجي المعاصر بالحداثة، وبقيم المعاصرة، كما يقرن بالتطور الاقتصادي، المنتج لنمط الأنتاج الرأسمالي، ورديفه الأيديولوجيا اللبيرالية، ويتوج بالمشروع الإمبريالي، ومشاريع الهيمنة المتعددة. كما يقرن المفهوم بالنزعة الإنسانية، ومبادئ فلسفة الأنوار، في العقلانية والحرية والتعاقد، مما يركب مزيجاً غريباً متناقضاً، يسمح لمختلف التيارات الأيدولوجية النتصارعة باستدعاء الوجه الذي تشاء منه، فلا تكاد ملامح الغرب تتضح إلا لتزاد غموضاً، وما تكاد تتسق وتنسجم، حتى تزداد تناقضاً، فيتولد عن هذا المزيج المعقد خطابات لا حصر لها، وهو ما يعطل آليات الاستدلال النظري المنتج، وقد تكون هذه ملازمة لكل المفاهيم التي توظف في الحروب الأيديولوجية.
ما يؤكد هذا، هو مواقف الغرب الأوروبي من الإسلام، إنه يقوم بفتح الأقسام العلمية لمعرفته داخل جامعاته، ويشجع البحث العلمي، في مجال مقاربة الظاهرة الإسلامية، في مختلف أوجهها، لدرجة تجعله ينتج سنوياً نصوصاً مهمة، في مجال المعرفة بالإسلام وتراثه بعضها نزيه وموضوعي، وأغلبها موجه ومعد لترتيب أساليب في العمل، وغايات مهيأة سلفاً. إضافة إلى مساندته وتدعيمه لبعض الحركات الإسلامية، لبلوغ مرام سياسية محددة، في الوقت ذاته- كما حصل في أطروحة هانتنغتون- إن زمن انتهاء الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي الليبرالي والغرب الاشتراكي، أدى إلى ميلاد عدو جديد، عدو يعمل كل ما في استطاعته لمواجهة الحضارة الغربية، وهي الحضارة التي تمتلك اليوم زمام المبادرة التاريخية المبدعة. فالإسلام هو العدو القديم، وهو العدو المرتقب، لأنه يرفض مقدمات الحضارة الغربية وأصولها، كما يرفض مكتسباتها. فكيف نوفق بين هذه المواقف؟ العمل على معرفة الأسلام، تدعيم بعض النزعات الإسلامية، محاصرة الإسلام السياسي باسم رفضه لقيم الحداثة الفكرية والسياسة والتاريخية، كما تبلورت في تجربة التاريخ الأوروبي، وتشجيع بعض النزعات الإسلامية، باسم أنها متسامحة وقادرة على تقبل مكاسب الحضارة الغربية؟