د. كامران أحمد محمد أمين
صحيح أن الإنسان يعيش في الحاضر، ولكنه يقع باستمرار تحت تأثير الماضي والمستقبل، ويعمل جاهدا إلى استنباط الدروس من الماضي والسيطرة على المستقبل بأكبر قدر ممكن، وبالإستناد إلى الماضي يحاول أن يضيف أكبر قدر ممكن من القيمة على حاضره، وفي الوقت نفسه فإن إبطال قيمة ما قد يكون ماضياً نموذجياً، والإصرار على استخراج مبادئ ذات مضامين معيارية في أنماط الحياة الخبرات الحديثة الخاصة، يدل على البنية المتغيرة لروح العصر.
ويختلف الجدل السياسي اختلافاً دوهرياً عن الحوار الأكاديمي ويتصف ببعض الخصائص، فهو لا يسعى لأن يسم نفسه بالصواب والصدق فقط، ولكن يحاول القضاء على القاعدة التي يرتكز عليها الوجود السياسي والإجتماعي والفكري المعارض.
ويتغلغل الجدل السياسي، إذن بعمق أكثر على القاعدة الوجودية للتفكير من الحوار الجدلي الذي يفكر في إطارات- وجهات نظر- مختارة ولا يقيم وزناً إلا للتطابق النظري لحوار معين، ولما كان النزاع السياسي في بدايته عبارة عن شكل عقلي من الكفاح لأجل السيطرة الإجتماعية فإنه يسدد بقوة هجومه على المواقع الإجتماعية التي يشغلها المعارض، وعلى ما يتمتع به من اعتبار اجتماعي وثقة في النفس في مثل هذه الحالة من الصعب أن نقرر فيما إذا كان- التسامي- أو التعويض، في الجدل بدلاً من الأسلحة القديمة المستخدمة في النزاع، مثل اللجوء إلى إستعمال العنف والإضطهاد استعمالاً مباشراً، قد يحقق في الواقع تحسيناً أساسياً في الحياة البشرية، حقاً إن الإضطهاد الجسماني أصعب على التحمل الخارجي، إلا أن إرادة للإفناء والإبادة النفسية التي حلت في عدد من الحالات، فإنها لا تطاق أبداً، فلا عجب إذن أن يتحول كل دحض نظري في هذا المجال بالتدريج إلى المزيد من الهجوم، وبالقضاء على النظريات التي يمكن تحطيم المركز الإجتماعي الذي يشغله. وصار الناس لأول مرة في المنازعات السياسية أكثر يقظة ووعيا بالحوافز الجماعية اللاشعورية التي كانت تقود اتجاهات الفكر دائماً، وكان الجدل السياسي أكثر من المناقشات النظرية قدرة في تمزيق الحجب، وتعرية الحوافز اللاشعورية التي تربط وجود الفئة بالآمال والمطامح الحضارية ومجادلاتها النظرية، وإلى أن تتغلغل عملية رفعة الأقنعة إلى الجذور الإجتماعية للإنتاج الفكري، وشكل رفع الأقنعة الواحدة الموضوعية الشاملة عن العالم. ومن الممكن في أي جدل سياسي، ما يكون مهما جدا بالنسبة لأحد الأطراف سيكون ثانوياً وهامشياً بالنسبة للطرف الآخر، وغالبا ما يتقاسم أشخاص كثيرون وجهات نظر متشابهة حول الأهمية النسبية لإختلافات محددة. وأكثر من هذا، فإن التوصل إلى حل مرض ِ للجميع أحياناًَ لا يتحقق عن طريق تحليل تأخذ في الإعتبار كل الإختلافات التي تعد ذات صلة بالموضوع.
كما هو معلوم فإن كل جدل سياسي يستند إلى الفكر، والفكر دائماً يستند إلى التاريخ، وبناء على ذلك يتوخى قراءة المستقبل، ليخلق حاضراً جديراً بأن يكون أرضية صلبة للخطوة التالية، إذن، فالجدل السياسي يحتوي على الفكر التاريخي ويوتوبيا المستقبل، وهذا هو المكون الأساسي للحدث التاريخي، ولكن كيف نستطيع تصور الأمور على هذا النحو، وأن نستنتج مجاوزة الواقع، لأن المعلول لا يستطيع أن يتخطى العلة أو جملة من العلل. لأن الأفكار أيضاً أسلحة، لا يمكن التصور أنها ستبقى بصورة محايدة كأنها كلمات مجردة أطلقت في الهواء. فالأفكار القوية قد تبقى في الكتب أو في الأذهان لفترة طويلة، ولكن حين تسنح لها الفرصة فتبدأ بالسعي للتحقق، لذلك من الخطورة أن نلعب بالأفكار. وإن كان في كل اللحظات التاريخية يجد كل باحث أو مفكر، وكل مجموعة اجتماعية حولهم، عدداً مهماً من الأفكار، والمواقف الدينية والأخلاقية والسياسية... وإلخ، والتي تشكل أكبر قدر ممكن من التأثيرات المحتملة، يختارون منهم واحداً أو عدداً صغيراً من الأنساق، ويخضعون واقعياً لتأثيرها. وإن نشاط الذات الفردية والإجتماعية لا يتحقق عند إختيارها لفكر تجد فيه نفسها فحسب، بل أيضاً من التغيرات التي تفرضها عليه.
وهذا يبين أن كل عصر يتيح الفرصة لظهور الأفكار والآراء والقيم التي تتضمن في إطارها بشكل مكثف ومكدس الإتجاهات والميول غير المنجزة وغير المحققة التي تمثل حاجات كل عصر، تصبح تلك المواد العقلية المواد المتفجرة المحرقة التي تحطم حدود نظام القائم، وتجعله حرا وينمو ويسير قدماً نحو نظام ثان للوجود. وهذه الأفكار بدورها تصبح جزءا من التاريخ، وإن تعاملنا معها في الحاضر، لأن التعامل مع تاريخ الفكر وفي إطار الحاضر، ونتيجة للجدل السياسي، ويتمخض عنه فكر جديد يحمل خصائص عصره. والفكر الجديد، بما أنه جديد، في البداية لا يستطيع الناس استيعابه ولا يتقبل الواقع الموجود بسهولة، وهذا ينعكس على الوضع السياسي والإجتماعي داخل المجتمع ويؤدي إلى خلق التوتر والنزاعات، ومع أن هذه النزاعات في البداية تحمل طابعاً من البساطة، ولكن وبمرور الزمن تأخذ طابع العنف وتؤدي إلى الإنفجارات السياسية وتقضي على الأفكار والنظام القديم، وطبعا هذه الإنفجارات الإجتماعية تختلف من حيث الآثار والنتائج من مجتمع لآخر.
وهكذا تتشكل منظومة العلاقات السياسية في أي مجتمع من المجتمعات، والتي يمكن النظر إليها من زاوية مسيرتها في الزمان، وهذا يعني أن علم العلاقات السياسية يمكن أن يكون أولا مسيرة الحالات المتعاقبة للمنظمومة في الزمان الماضي، أي التطرق التاريخي لها، وكذلك ينبغي التعامل مع الحالة الحاضرة وآليات العمل للمنظومة، أي التحليل البنيوي للعلاقات السياسية العصرية. ويمكن لكل جزء وفرع من فروع المنظومة السياسية موضوعها لتشخصيها السياسي. وهذا مما يساعد على التنبؤ بالأحداث. ويؤدي بنا إلى القول بأن ليس مهماً أن يأتي فرد كل يوم بفكر جديد، بل المهم هو أن يفهم الظواهر ويتنبأ بوقوع الأحداث أو بأن الأحداث على أشراف الوقوع. وقدرة التنبؤ بالأحداث هو أحد الأهداف الرئيسة والمهمة للتاريخ، وإن هناك من يرى بأنه لا يمكن التنبؤ بالمستقبل، لأنه لا يمكن تصور المستقبل على غرار الماضي. لقد كان أسرطو يقول إن كل حكم تصدره عن المستقبل هو منطقيا لا يمكن أن يكون صادقا أو كاذبا، وهناك من يرى أنه من المستحيل أن يكون ثمة حكم على المستبقل لأن كل حكم تصدره عن المستقبل لا بد أن يحيله إلى الماضي، ومن ثم فإنه سيتضمن إنكاراً له كمستقبل. وفي الواقع كل فعل مرتبط ارتباطاً جوهرياً بالزمن، ولا سيما بهذا البعد الزمني الذي نسميه المستقبل، وكلما كان الفعل متصنعاً بالخلق والإبداع كان التنبؤ له أكثر صعوبة. لأن العلاقة بين العلة والمعلول علاقة صعبة ومعقدة ولا يمكن القول بأن الأسباب نفسها دائماً تؤدي إلى النتيجة نفسها، لا نستطيع التكلم بصورة مطلقة عن هذه العلاقة، أي العلاقة بين الحوادث التي تؤدي إلى ظهور حوادث أخرى ونستنبط منها قانوناً كلياً، لأنه هناك عوامل أخرى تؤثر في الحديث، ولكن هناك بعض الحالات، أي العلاقة بين العلة والمعلول في بعض الحوادث المعينة يعد من الأمور المسلمة.
المصدر: كتاب السياسة الدولية في ضوء فلسفة الحضارة