* محمّد الحداد
يبدو أنّ قضية العولمة، المطروحة بحدّة، تعيد إلى ساحة النقاش مواقف قديمة متجدّدة من التراث، بين متحصّن به لإثبات الذات في وجه العولمة، وداعٍ إلى قطيعة نهائية معه لتحقيق حداثة طال انتظارها.
ليس التحصّن بالتراث سبيلاً مضمونة لإثبات الذات، فالسبيل المثلى وعي دقيق بالحاضر وعقلنة للرغبات والطموحات والأدوات والوسائل. على أنّ الدعوة مجدداً إلى القطيعة الجذرية مع التراث لا تخدم قضية الحداثة، وليس عصر العولمة مختلفاً نوعياً عن العصر السابق فيتحقّق اليوم ما لم يتحقّق بالأمس.
من الضروري أوّلاً تحديد المقصود بالموقف، هل هو الموقف الفردي أم الجماعي؟ فعلى المستوى الفردي، يُعتبر حقاً من حقوق كل إنسان يختار موقف القطيعة وأن يعيش ذاتياً هذا الموقف إذا استطاع إليه سبيلاً، لأنّ حضارة العصر حضارة فردانية تقرّ لكل إنسان بكيان مستقل ولا تعامله على أنّه جزء من مجموعة تفرض عليه فكره وسلوكه.
أمّا على المستوى الجماعي فالأمر مختلف. فمَنْ يريد التأثير في مجموعة مضطر أن يرسم معها حدّاً أدنى من جسور التواصل والحوار، لا بمعنى أن يقبل ما تفرضه المجموعة من فكر ومسلّمات وأنماط سلوك، بل أن يأخذ على عاتقه التفكير في ما تعتبره هي مشاكلها، وإعادة صياغة هذه المشاكل صياغة إيجابية. والتراث مشكل من المشاكل الجماعية التي لا يمكن التغاضي عنها، وإنْ ظن الفرد، وهو واهمٌ في ظنه على الأغلب، أنّه يتخلّص منه بجرة قلم. وإذا لم يتحمّل خطاب الحداثة مهمة التفكير في مشكل جماعي، فإنّه يترك المجال مفتوحاً لأصحاب الحلول الأيديولوجية الجاهزة يفرضون الوصاية على المجموعة ويبطلون فيها كل نسمات التفكير، ويستغلّون عواطفها النبيلة في تحقيق غاياتهم المشبوهة.
ليست القضية أن نخنق الاختلاف داخل المجموعة، أو أن ندعو إلى التقية وانفصام الذات بين وحدتها وانخراطها في المجموع. إن تحمّل مهام التفكير في المشاكل الجماعية لا يعني الانخراط في الرؤية الجماعية لهذه المشاكل. الاختلاف شيء والتهمُّش شيء آخر. الاختلاف يفترض الاتفاق في طرح المشكل فلا يبيّن الاختلاف إلا بتعدد الإجابات عن المشاكل الواحد. أمّا التهمّش فغياب عن ساحة الفعل الفكري والجماعي، وهو موقف معبِّر عن الأنانية واليأس لا عن البطولة والتفاؤل بالمستقبل.
سيؤدِّي واقع العولمة إلى تضخم الأطروحات التراثية من موقع التحصن بالماضي أمام الفزع الذي يثيره المستقبل. لكن من الخطأ أن نخلط بين التراث والأطروحات التراثية، الأوّل مشكل حقيقي والثاني توظيفات أيديولوجية للمشكل. ليس الموقف الحداثي انتقالاً من النقيض إلى النقيض ومواجهة موقف التحصن بموقف القطيعة، بل هو تجاوز الأطروحات التراثية إلى المشكل التراثي ذاته لمعالجته في وعي المجموعة لا في خطاب الذين منحوا أنفسهم حق الوصاية عليها وعلى ماضيها وهويتها.
ثمّ إنّنا لسنا مضطرين لأن نعود القهقرى ونستعيد استقطاباً ثنائياً أثبت الماضي القريب عقمه. يتوافر اليوم رصيد من التجربة لم يكن متوافراً للذين حلموا منذ قرن بتحقيق النهضة تواصلاً بالتراث أو قطيعة معه. وإذا أردنا أن نتقدّم خطوة أو خطوات إلى الأمام فلنسائل ذلك الرصيد في اتجاه مسألتين: الأولى، أنّ الانفتاح على العصر لا يمكن أن يتمّ من دون انقلابات ثقافية وإجتماعية يظل تحديد مداها مفتوحاً للنقاش. والثانية إنّ القطيعة التامة مع التراث مستحيلة لأسباب عدة، منها كون اللغة المستقر الأكثر عمقاً لمسلّمات التراث والمخزون الحقيقي لرؤاه، فكيف تكون القطيعة مع اللغة؟ لئن كانت أوروبا قد انتقلت من اللغة اللاتينية التراثية إلى اللغات العامية التي أصبحت قومية حديثة، فأية قطيعة لغوية تتحقّق عندنا، هل باعتماد اللغات الأجنبية التي لا تتقنها إلا النخبة أم باعتماد اللغات العامية الأوسع انتشاراً لكنّها الأقل قدرةً عن التعبير العلمي والفلسفي؟ وإذا بطلت القطيعة مع اللغة فقد بطلت القطيعة مع التراث. ومنها كون العولمة لا تحمل نفس سحر كلمة "مدنية" في آخر القرن التاسع عشر أو "الحداثة" في بداية القرن العشرين. فإيحاؤها السلبي يغالب ما تتطلع إليه من إيحاء إيجابي، بل هي أدعى إلى إثارة التوجس من إثارة الإعجاب. وإذا لم ينجح بريق "المدينة" ثمّ سحر "الحداثة" في حسم قضية التراث، فكيف تنجح في ذلك وقائع عولمة بدت مشبوهة منذ الوهلة الأولى؟
المطلوب أن نواصل البحث عن الحلول من دون عودة إلى ما أصبح مستحيلاً بحكم التجربة، وأن يتعمّق البحث عن الاختلاف من دون أن تتحوّل المناقشة جدلاً حول جنس الملائكة. والأكثر توفيقاً أن نحوّل التراث مادة للاستكشاف بدل استعماله سلاحاً أيديولوجياً، فإذا لم يتحقّق ذلك فلا أقلّ من أن نجعله مادة للاستكشاف إلى جانب توظيفه أيديولوجياً، وذلك الحد الأدنى من الطموح. وليس استكشاف التراث تحقيق النصوص أو طرح مشاريع أيديولوجية أو صورية لقراءته، بل استكشاف التراث يعني إخضاعه لمجموع الإشكالات المطروحة في العلوم التاريخية والإجتماعية ليساهم في مزيد من تحديد تلك الإشكالات كما تساهم هذه في المزيد من توضيح معانيه وحقائقه، كما يعني الانتقال بتلك المعرفة إلى الحد الأدنى من العلمية.
لقد حان الوقت، بعد مرحلة تحقيق التراث ثم التنظير لمشاريع قراءته، حان الوقت لقراءته بأكثر أدوات القراءة تطوّراً، تلك التي توفرها العلوم الإنسانية والإجتماعية والنصية والدلالية، وجاء الدور لكي تصبح هذه القراءات مرجع الجدل ولا يغمرها الغبار على رفوف المكتبات المتخصّصة. وهكذا نبدأ بمشروع نحو التقدّم بدل الدوران المفرغ في حلقة الشعارات والمواقف.
المصدر: كتاب مواقف من أجل التنوير