* د. كمال عبداللطيف
اتّجهنا في هذا الموضوع إلى تقديم جملةٍ من المعطيات في موضوع العرب والعالم اليوم، كما حاولنا بناء عناصر منهجية في طريقة المعالجة وفي نوعية الخلاصات التي رتّبناها في سياقات التحليل والعرض. ومنذ البداية اعتبرنا أنّ التواصل الإيجابي مع العالم يتطلّب أوّلاً وقبل كل شيء مباشرةً تواصلاً عميقاً مع الذات. فلا يمكن أن ننخرط مع الآخرين في مغامرة التفكير والعمل والتوافق، من دون أن نكوّن، أوّلاً وقبل كل شيء، ذاتاً متصالحةً مع ذاتها.
يعني التصالح مع الذات في تصوّرنا الإدراك التاريخي للتحوّل الحاصل في ذواتنا، ذلك أنّنا لا نزال في كثير من مظاهر وعينا نتحدّث عن ذاتٍ لم تعد ذاتاً لنا. ولعل ما لحق ذاتنا من تحوّل تاريخي أعظمَ مما نتصوّر، وذلك رغم رفضنا الوجداني لكثير من أشكال التحوّل الموضوعيةِ الحاصلةِ فينا.. ولهذا السبب، فنحن لا نرى أنفسنا في الحال والمآل، بل نواصلُ تثبيت صورٍ ذهنيةٍ متخيلة في أغلبها عن ذات تعتريها مثل كل ظواهر التاريخ تحوّلات وتصدعات تقتضي أن نمتلك القدرة والشجاعة على الاعتراف بها ومجابهتها، لنتمكن من مواصلةٍ مغامرتنا الإنسانية في التاريخ.
لا تَواصلَ مع العالم من دون قاعدةِ التواصل مع الذات، التصالح مع مآلها الراهن، والوعي بإمكانية تدارك مواطن العطب فيها، من أجل استعادة الروح والجسد ومواصلة العمل. ينبغي عدم فهم التصالح مع الذات بإعتباره مجرّد خُنوع أو قبولٍ بالأمر الواقع، فقد تشكّلُ مقاومةُ مظاهر تأخرنا التاريخي العام بلغةً العصر ومبادئه الكبرى، الصيغة المواتية لتصالح يمكّن الذاتَ من بناء ذاتها بصورةٍ أكثر فاعلية.
تسمح الخطوة المذكورة بإمكانية تحقيق مشروع ثقافي عربي في التواصلٍ مع العالم، ولا يتعلّق الأمر بتوقيف عملية أولَى وبداية ثانية، فالخطوتان معاً متصلة إحداهما بالأخرى بوشائج من القربى، بعضها ظاهرٌ ومكشوفٌ، وكثيرٌ منها مُضمَرٌ وحاصلٌ بصور عديدة يصعب في بعض الأحيان التمييز فيها بين الذات والعالم.
لم نتجه في عملنا لتأكيد الخصوصيات المحلية إلا لِمَاماً، ذلك أننا نقدّر أنّ مشاكلنا في العالم واحدةٌ. ورغم أنّنا توقفنا في بعض لحظات التمثيل والتحليل في فصلنا أمام بعض قضايانا المحلية والقومية، ونحن نفكّر في القضايا العالمية المشتركة، إلا أن مظاهر إشكالات المحلي لا تُستوعبُ بصورةٍ جيِّدة إلا في فضاء ارتباطها بالعام والعالمي، وهو الأمر الذي يؤكّد مشروعية دفاعنا عن لزوم التواصل مع الآخرين، من أجل بناء عالم مشتركٍ يَسَعُ الجميع، ويساهم الجميع في ترتيب ملامحه من التآرز والتعاون..
صحيح أنّ المنطقة العربية شكّلت في العقدين الأخرين فضاء لإختبار خيارات سياسية وعسكرية واستراتيجية محدّدة، وهو الأمر الذي ضاعف مشاكلها، وعمّق مآزقها التاريخية. وصحيح أيضاً أنّ المتوقّع الصهيوني المدعوم بإرادة القوم الأمريكية والغربية، قد رسَّخ وجوده الاستعماري في فلسطين، وأنّ العدوان الأمريكي المنفعل والمتهور يخاصم مناطق كثيرة في العالم، ويحتل اليوم العراق ليضمن لنفسه موقعاً في قلب جغرافية الموارد العربية في المشرق العربي والخليج العربي. إلا أن كل هذا ينبغي ألّا يصدنا أبداً عن مواصلة المقاومة والمجابهة بأساليب التاريخ المساعدة على تعديل الموازين وتغيير المواقع، من أجل مباشرة بناء ما يحقّق التواصل المنتج، الذي يتيح لنا إدراكاً جيِّداً لأسئلتنا ولما نريد، ويساعدنا على إنجاز عمليات مساعدة في إعادة تركيب معادلة الصراع القائم فوق أرضنا.
إنّ أوّل أشكال المقاومة كما نتصوّر، يتمثّل في تغيير نظرتنا إلى الآخرين، بناء على ما يعتري وجودهم وأحوالهم من تغيّر في مختلف مستويات الحياة، تغيّر تستلزمه في العادة مقتضيات التاريخ، وينبغي علينا أن نتساءل دائماً، هل نعرف الآخرين فعلاً، أم إنّنا سجناء صُور نمطية جاهزة لا تتغيّر؟ صور تعلمنا دروسُ التاريخِ لزومَ تغييرها إذا اقتضى الأمر ذلك.
وإذا كنّا على بيّنة من أنّ الحوار لن يصبح مُنتِجاً من دون أن يكون متكافئاً، وأن تكافؤ العلاقة بيننا والآخرين في العالم، ليست مجردَ أملٍ يراود النفوس، أو خاطرة تحضر في البال، فإنّنا نعتقد في الآن نفسه أنّ التكافؤ فعلٌ تاريخي يحصل بالوسائل التي تسمح بحصول الأحداث والمواقف في التاريخ، لهذا السبب انحزنا إلى مبدأ الإيجابية المشفوعة بالحس النقدي والتاريخي، وأبرزنا أهمية التواصل في عالم لا عائد اليوم من وراء اختيارات مواجهته برفضه، أو مواجهته بالانكفاء على ذات لم تعد ذاتاً لنا، بحكم تحوّلات وتفاعلات المجموعات البشرية في التاريخ.
إنّ التواصل أوّلاً هو طريق التواصل المتكافئ، وهذا الأخير هو سبيلنا نحو تركيب تواصلٍ في العالم. فكل القضايا التي اعتنينا بمعطياتها في هذا الموضوع ومن دون استثناء، تخصنا كطرفٍ مشاركٍ في العالم، من قضايا التطرف إلى إشكالات الأمن والسلام، إلى أمثلة الإثنيات والتلوث البيئي في علاقاتهما المركّبة بالصحة والتنمية والتحديث السياسي.
ولهذا السبب بالذات، استعرضنا في موضوعنا أمثلة من المعطيات المتنوعة، وتوقفنا عند بعضها بهدف المساهمة في إبراز أهمية فعل التواصل التاريخي في تطوير ذاتنا داخل العالم. بل إنّه بفضل المقدمات النظرية التي قدمنا بها لهذا العمل، سيصبح فعلُ المقاومةِ المناهضة للاحتلال، والمواجه لصور الطغيان والغطرسة، كما نفترض فعلاً، من أفعال التواصل بامتياز.
إنّ أفعال المقاومة المستندة إلى قواعد محددةٍ تُعدّ المكافئ الموضوعي لأفعال الاغتصاب والاختراق والاحتيال، التي تقوم بها أطراف أخرى بهدف إلحاق الضرر بوجودنا التاريخي.
المصدر: كتاب أسئلة الحداثة في الفكر العربي (من إدراك الفارق إلى وعي الذات)