* فهد توفيق الهندال
ما أن تتخطّى العقلية العربية أزمة مرّت بها، الحقت بها ضرراً وتصدّعاً كبيراً بين أركانها وقطاعاتها العديدة، حتى تقع ثانية – وثالثة ورابعة... إلخ – في أزمة جديدة تعيد ذات الجدل العقيم، يزيد من تناقضات أربابها ومريديها إلى أن تصل إلى حالة الصدمة والنكسة مما تؤدِّي في أغلب الأحيان إلى الإنتحار العقلي الجماعي، إلا اللّهم النزر اليسير من أصحاب البصيرة والتعقُّل والتدبُّر في شؤون الأُمّة العربية وتاريخها المتنوّع.
والإعلام العربي جزء رئيسي من إرهاصات عقلية الإستعمار والمؤامرة والنكسة، التي عرفها المواطن العربي منذ عقود طويلة، دون أن يتعلّم كيفية تخطيها والنهوض بفكر جديد وعقلية حديثة تخطّط لتصدر صفوف الدول المتقدِّمة، ولن تقول كأمريكا أو أوروبا حتى لا نتهم بالمحاباة للغرب أو التغريب! وإنّما سنقول كاليابان والنمور الآسيوية على الأقل، لكونها الأقرب منا جغرافياً وثقافة تعتمد الهوية الشرقية.
فالإعلام العربي متسبّب كبير في هزيمة العقل العربي مرّاتاً عديدة، بدءا بما سُمّي بثورات التحرُّر الوطني من الأنظمة الملكية والبرجوزانية والانقلابات تحت مسميات الحركات التصحيحية، مروراً بالهزائم المعنوية قبل العسكرية والتي سميت بأسماء بعيدة اصطلاحاً ومنطقاً عنها كالنكسة والنكبة، إنتهاء وليس آخراً، مؤامرة الاستيلاء على ثروات الأُمّة. وهذا ما كشفته حرب العراق، حيث دفع المواطن العربي ضريبة إعلامه الزائف والمتواطيء مع الأنظمة القهرية والديكتاتورية، التي تجلده ليل نهار، وتقتاد على ظهره الملايين من ثروات البلاد واستعباد العباد، بما كونته من أنظمة عسكرية بوليسية تتقمّص أثواباً فضفاضة من الديمقراطية والحرِّية والوحدة العربية. وكم كنّا نتمنّى أن يعود الإعلام العربي إلى رشده، ويستفيق من صفعة السقوط المذهل والعجيب لكل شعارات الدفاع عن البوابة الشرقية والشرف العربي وهروب من جعلهم هذا الإعلام في عيون المواطن العربي البائس رموزاً للتحرُّر والكرامة العربيين. ولكن.. كالمستجير من الرمضاء بالنار!! فنشاهد اليوم فضائيات الردح العربي تتسابق لخلق العداء ثانية بين العرب، واتهام الضحيّة، وتمجيد الجلاد. فهذه الفضائيات التجارية نست تماماً تلك الصرخات الهستيرية للأُمّهات العراقيات اللاتي اكتشفن رفات أولادهنّ في المقابر الجماعية، كما هو حال مئات الآلاف الباحثين معهم عن المصير المجهول لذويهم وأبنائهم.
هذا هو مستنقع الإعلام العربي الذي توغلت وغاصت فيه أجيال عربية كثيرة، تأخرت نهضتها ومشاريعها التنموية الفكرية بتخبطها ووقوعها المتكرّر فيه. هذا المستنقع الذي تناوب مريدوه على حمل القضايا والهموم العربية في حقائب رجال الأعمال، وكانوا سماسرة بارعين في عرض بضائعهم على مختلف الفضائيات ووسائل الإعلام، بما أسموها اليوم بالحقائق أو المذكرات الخفية. ومنهم، من ذكره الكاتب محمّد الماغوط في كتابه (سأخون وطني) واصفاً إيّاه بتاجر الجثث الذي يحمل هياكل بعض الرؤساء العرب وذكرياته معهم في كيس يدور به من مكان إلى مكان يبيعه يومياً للصحف الأسبوعية ودور النشر، ويعلق الماغوط على دموع هذا الكاتب المدرارة على الثورة العربية والغضبة على أمريكا وتحذيراته من حرب عالمية ثالثة، بأنّ كل هذا بسبب أنّ أحد الرؤساء أزاحه من على قمة هرم إحدى أكبر الصحف اليومية.. لا أكثر ولا أقل. فلنتخيّل.. عدد من يسمون أنفسهم كتاباً وإعلاميين من هم على شاكلة هذا الكاتب، وستعرف معه المدة المستحقة على العقل العربي للبقاء أكثر في مستنقع الإعلام العربي.
المصدر: كتاب الفكر والحجر (تأمُّلات ذاتية في مدارات الهوية)