عبد السلام بنعبد العالي
أننا لا يمكننا أن نؤسس لثقافة عربية مغايرة إلا بتوليد الآخر كآخر، ولكن أيضاً بالتحرر من الرغبة في التحول إلى أصل، والتخلي عن افتراض أي مفهوم مطلق عن الخصوصية في الميدان الثقافي.
ما هي العلاقة التي تربط الثقافة العربية المعاصرة بآخرها؟ تيسيراً للجواب عن هذا السؤال الذي يسمح لنفسه بأن يتحدث عن الثقافة العربية وعن آخرها، وعن العلاقة بينهما، بصيغة المفرد، لنقم برصد تاريخي، ولنتوقف عند لحظة زمنية أخرى، لحظة حضارية أخرى، ولنتساءل عن العلاقة التي ربطت الثقافة العربية قديماً بغيرها من الثقافات؟ ولنستأنس في الإجابة عن هذا السؤال الثاني بنصين أساسيين، أحدهما مأخوذ من المناظرة المشهورة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، والتي جرت بين المنطقي متى بن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي، والآخر مأخوذ من شذرات لـ (فريدريش شليغل).
نقرأ من المناظرة: "قال السيرافي: أنت إذا لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ وقد عفت منذ زمن طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها، على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معانٍ متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟
قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت.. وأن كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه.. وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم".
يطرح هذا النص مجمل القضايا التي عاشتها الثقافة العربية الكلاسيكية في تعاملها مع غيرها من الثقافات، وبخاصة الثقافة اليونانية، فهو يبرز الأهمية التي أدتها اللغة في التواصل مع الآخر، والدور الذي أدته الترجمة في ذلك، وما تمخض عن تعدد الوسائط اللغوية. كما يظهر تشككاً في جدوى التفتح على ثقافة بعينها، وتخوفاً من الوقوع في أحضانها والتعصب لها، ويدعو إلى النهل من معين جميع الثقافات المبثوثة في العالم.
قبل أن نتوقف عند تفصيل هاته القضايا والتساؤل عما إذا كنا نحياها نحن على هذا النحو؟ لنقرأ النص الثاني الذي اقترحه عليكم مقتبساً من شذرات لـ شلغيل يقول: "يتسم العرب بطبع مجادل إلى أبعد الحدود، فهم، من بين الأمم جميعها، أكثر الأمم قدرة على النفي والإتلاف. ما يميز فلسفتهم في روحها هو ولعهم المرضي بإتلاف الأصول والقضاء عليها بمجرد أن تتم الترجمة".
لا يهمنا هنا بطبيعة الحال الوقوف عند هذا النص في محتواه الأيديولوجي، ولنكتف بالتساؤل عما إذا كانت النتائج التي تتمخض عما يثبته تفصح عن العلاقة الفعلية التي ربطت الثقافة العربية الكلاسيكية بالثقافات التي تعاملت معها؟
لتحديد تلك النتائج لنتساءل في البداية عما يعنيه شليغل بإتلاف الأصول، أو كما يقول هو "إتلافها والإلقاء بها جانباً"؟ إنه يعني أن الثقافة العربية الكلاسيكية كانت تتعامل من موقع قوة مع غيرها من الثقافات. كانت عندما تنقل الأصل إلى لغتها وتتمثله في ثقافتها، كانت تؤقلمه وتضمه إليها، كانت ترضخه وتقضي على عنصر الغرابة فيه، فتبتلعه وتدخله في دائرة الأنا شعوراً منها أنه لم يعد آخر، لذا فسرعان ما تنفيه وتعمل على إتلافه والإستغناء عنه كأصل بعد أن "ترقى" به إلى لغتها.
في إطار علاقة القوة هاته، والتي يقهر فيها كل إختلاف، نفهم أن تولد الترجمة مكتملة منذ الوهلة الأولى، كما نفهم ألا يتم التفاعل إلا من جانب واحد، وألا يتم نقل النصوص إلا نحو العربية وليس العكس.
هذا ما يؤكده الجاحظ في نص مشهور من كتاب الحيوان، حيث يقول: "وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونانية وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسناً وبعضها ما انتقص شيئاً. ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعانيهم وفطنهم وحكمهم".
المعنى الأساس لهذا النص ليس كون الشعر لا يترجم كما قيل مراراً، وإنما أن العجم ليسوا في حاجة إلى أن تنقل إليهم النصوص العربية. ويقول الجاحظ: حكمة العرب أن النص العربي ليس في حاجة إلى أن ينقل، على عكس الحكم اليونانية وكتب الهند وآداب الفرس التي ترتقي وتزداد حسناً، أو على الأقل لا تفقد شيئا عندما تنقل إلى لغة الثقافة، أي لغة الضاد.
إن الجاحظ يضع مسألة التفاعل الثقافي ضمن علائق القوة التي تربط الثقافة العربية بغيرها من الثقافات. وهذا يتجلى أساساً في عملية النقل التي يتم عن طريقها التثاقف، أي الترجمة؛ فهذه العملية تكون ذات مفعول إيجابي، أو على الأقل مفعول محايد عندما تتم في إتجاه لغة الثقافة، أي اللغة العربية، وهي لا تكون ذات مفعول، أو ذات جدوى في الإتجاه الآخر.
ذلك أن الثقافة الكلاسيكية كانت تعتبر أن لغة الثقافة هي العربية، لذا فإن القدماء الذين كان حملة العلم فيهم "أكثرهم العجم"، و"إن كان منهم العربي في نسبة فهو عجمي في لغته"، كما قال ابن خلدون إن القدماء كانوا يشعرون أنهم لم يكونوا يخاطبون إلا قراء يتقنون العربية، وإنهم بالتالي، عندما ينقلون النص إلى هذه اللغة، فإنهم "يرقون" به إلى لغة الثقافة. لا عجب إذاً، أن يصبح النص في العربية هو النص، وأن تتم عملية الإتلاف التي تحدث عنها شليغل. ولا غرابة أن تعتمد الترجمات العربية في ما بعد كنصوص أصلية، كأصول، ويكفي، مثالاً على ذلك، أن نذكر أن الترجمة العربية لـ كليلة ودمنة، هي التي ستعتمد كأصل عند ترجمة الكتاب إلى اللاتينية والإنكليزية والفرنسية، بل حتى إلى الفارسية الحديثة كما يؤكد أحد الدارسين.
لسنا في حاجة إلى برهان طويل كي نؤكد أن علاقة القوة التي تربط الثقافة العربية الآن مع غيرها من الثقافت، وتربط اللغة العربية بالنصوص التي تتعامل معها علاقة مخالفة لهذه، إن لم نقل مناقضة، بل إن لم نقل مقلوبة، فنحن لا نشعر أنا نرقى بالنص عندما ننقله إلى العربية نزيده جمالاً كما قال الجاحظ، بل إننا نحس، على العكس من ذلك، أننا نرقى بالنصوص العربية عندما نترجمها. إننا نشعر أننا نرتقي عندما نترجم، نلمس ذلك في ظاهرة أخذت تنتشر في ثقافتنا العربية، وكانت قد عرفتها الثقافة الروسية في القرن التاسع عشر، وهي لجوء بعض كتابنا إلى الكتابة أولاً بغير اللغة العربية. كي يعملوا، وفي غالب الأحيان ليعملوا هم أنفسهم على نقلها إلى لغة الضاد، هنا يغدو المرور عبر لغة الآخر هو الطريق المضمون، الطريق الموصل، الطريق المشرّف لبلوغ القارئ العربي. لكي يتلقى القارئ العربي النص يحسن، بل ينبغي أن يصله مترجماً، ينبغي أن ينقل إليه عبر لغة أخرى، معنى ذلك أن المعنى بالنص، حتى عندما يكتب بلغة أجنبية هو دوماً القارئ العربي، فكأن المثقف العربي اليوم لا يتكلم لغته إلا عبر لغة أخرى، لا يعترف بذاته إلا إذا اعترف به الآخر.
مقابل علاقة القوة التي أثبتناها مقدماً، نتبين هنا أن الثقافة العربية اليوم لم تعد تدرك ذاتها، ليس فقط إلا عبر آخر، وإنما عن طريق الإدراك الذي للآخر لها. إنها لا تدرك إلا في مرآة الآخر، فهي إذاً لا تعيش التثاقف كحركة تأليف ونشر، كتفاعل فكري، وإنما كأسلوب عيش ونمط وجود، وهي لا تعيشه كتفاعل وتثاقف، وإنما كانفعال وإثقاف.
لعل ذلك هو ما يجعلنا لا نقرأ إنتاجنا الفكري اليوم إلا مقارنين موازنين مترجمين. وتجد القارئ عندنا سرعان ما يربط النص العربي، بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنص آخر. أو لنقل بالأولى، والمبالغة مقصوده، إنه لا يطلع على النص العربي إلا بعد أن يربطه بنص آخر، إلا ليبحث فيه عن النص الآخر، لا يقرأ حي بن يقظان إلا بحثاً عن روبنسون كروزو؛ ولا المقدمة إلا بحثاً عن أ. كونت؛ ولا اللزوميات إلا لربطها بشوبنهاور؛ ولا المنقذ إلا بحثاً عن ديكارت؛ ولا التهافت إلا بحثاً عن هيوم وكانط؛ ولا رسالة الغفران إلا تقصياً لدانتي.
ها نحن كذلك ننسى "أن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم"، إلا أن وضعيتنا مغايرة، وعلائق القوة التي تربط ثقافتنا بغيرها مخالفة، وهي لا تسمح بطبيعة الحال، لا بالتعامل المنتج والترجمة الإستثمارية للنصوص الأجنبية فحسب، بل إنها تحول من دون التعامل المنتج، التعامل المبدع حتى مع النصوص العربية ذاتها. إن المرور إلى الذات عبر الصورة التي يعكسها الآخر يحجب الآخر ويحجب الذات معاً، هذا النوع من التفاعل الثقافي، من التثاقف يسيء أيضاً إلى ما يمكن أن نسميه التثاقف الذاتي.
لا يمكننا والحال هاته أن نؤسس لتثاقف فعلي يخرج الثقافة العربية من حالة الإثقاف التي هي عليه، إلا إذا حاولنا أن نقلب علائق القوة التي تربطنا بغيرنا، وهذا لن يتم إلا بتملك فعلي لثقافته؛ أي تكسير مرآتها أولاً، ذلك أن التملك في الميدان الثقافي لا يعني الملكية، لا يعني الإعتناق والتقمص والإقتراب، وإنما الإبتعاد والتحرر وخلق المسافات وإنتاج الأسئلة.
وهذا يعني أننا لا يمكننا أن نؤسس لثقافة عربية مغايرة إلا بتوليد الآخر كآخر، ولكن أيضاً بالتحرر من الرغبة في التحول إلى أصل، والتخلي عن افتراض اي مفهوم مطلق عن الخصوصية في الميدان الثقافي. ذلك أن المتاح اليوم لأية ثقافة ليس خصوصية مميَزة ومميِزة فحسب، وإنما كيفيات خاصة، وطرق نوعية للمساهمة في الثقافة الكونية، والإنخراط في المعاصرة، وإقامة ثقافة حوارية تستثمر الأصول وتعيد إنتاجها، فتنعش الفكر، وتشق له دروباً أخرى، وتفتح له آفاقاً مغايرة.
المصدر: كتاب الإسلام والغرب