تعريب: عبد الرحمن العلوي
منذ قرن من الزمن وضعت جميع الأمم أقدامها في طريق الحداثة بطريقة أو أخرى. ولاشك في انه طريق صعب ووعر على عكس ما يبدو من ظاهره.
وتصبح هذه الصعوبة أكبر حينما نعلم ان من المتعذر الانصراف عنه، او ان الانصراف عنه سيكون مصحوبا بآلام قاسية ومتمادية.
يتصورون عادة ان الحداثة عبارة عن مجموعة الأشياء التي يمكن استيرادها من الخارج ووضعها إلى جانب المخزون القديم. فنحن نتناول التقليد والحداثة وكأنهما أمران معينان ومعلبان موضوعان تحت تصرفنا، بحيث يمكننا ان نفعل بهما كيفما نشاء، ونحتفظ منهما بأي جزء نشاء ونلقي بعيدا أي جزء آخر.
لكن طريق الحداثة لا يقع خارج وجودنا. فنحن نسير في انفسنا حينما ننطلق باتجاه الحداثة. بتعبير أصح اننا لانسير نحو الحداثة كما ان الحداثة لاتأتي الينا، وانما نتحد معها بشكل او بآخر. فحينما تظهر الحداثة يتغير أكلنا، ونومنا، وذهابنا، وغيابنا، وذوقنا، وشمنا، وبيتنا، وتصوراتنا، وعلاقاتنا، ورغباتنا.
اي ان الحداثة عالم بمقدور انسان خاص ان يسكن فيه. وحينما ظهرت الحداثة في اوربا، طرأ تغيير متناسب ومتزامن معها، على العالم وفي وجود الأفراد والمجتمعات.
وهناك شعوب أخرى اقتبستها من الخارج وانطلقت في طريقها بما يعتمد على مدى استعدادها وادراكها وتفاعلها معها. فالكثير من هذه الشعوب ابتاعت آثار الحداثة من العالم الحديث من دون ان تفرغ في دار وجودها مكانا لها.
اي انها لم يكن بوسعها إدراك الحداثة واستيعابها، بل ولربما اصبحت الحداثة عامل مضايقة لها.
ليس بوسع اية امة الدخول إلى عالم الحداثة من دون ان تكون لديها معرفة بالفكر الحديث. فالغرب بناء رسم مخططه المفكرون، ولم يظهر من خلال تجميع اجزاء متناثرة. فإذا ما أراد أحد ان يبني بيتا صغيرا فإنه بحاجة إلى مخطط وتصميم. اي لا يمكن بناء غرفة ومطبخ وحمام ووضع بعضها إلى جانب البعض الآخر من دون وجود تخطيط مسبق يأخذ حالة التناسب بين هذه الأجزاء بنظر الإعتبار. صحيح ان البيت يشيده البناؤون والعمال، ولكن هل بمقدور هؤلاء تشييد البيت من دون وجود مخطط أو تصميم؟
العالم التكنولوجي المعاصر، شيده المهندسون والإقتصاديون والمصرفيون والتكنوقراطيون، لكنهم جميعا عملوا ضمن إطار تصميم لم يكونوا قد صمموه، بل ولم يلتفتوا اليه غالبا. فالذي وضع هذا التصميم هم المفكرون.
ولكن علينا الانتصور ان بمقدورنا التعرف على تصميم الغرب ومخططه بمجرد تعلم اقوال ديكارت وكانت وهيغل، ودراسة كتب تاريخ الفلسفة الغربية. فلابد من تعلم الاقوال والآراء، ولكن لايمكن مشاهدة تصميم العالم الغربي إلا في عمق الفلسفة الحديثة لا في ظاهرها. اي ليست هناك اهمية لتعلم ألفاظ الفلسفة، وانما ينبغي الإتحاد مع العقل الفلسفي. فاولئك الذين يعتبرون الفلسفة أمرا لا طائل فيه، لا يميزون بين هذين المعنيين للفلسفة، او يعتبرون الفلسفة مجرد الفاظ وكلمات.
الأمر الآخر الذي لابد من الالتفات اليه هو أن الفلسفة، كانت أساسا وشرطا لظهور وضع أطلق عليه إسم الحداثة. بل ان الحداثة تعني بالأساس تحقق الفلسفة والعقل الجديدين. وقد انبرى الإنسان الغربي لتشييد الحداثة من خلال استخدام العقل الجديد.
نحن في هذا اليوم ننشد الحداثة ونريد ان نعرف الطريق الذي نصل به اليها وما هي الوسائل والمستلزمات التي لابد من توافرها. وقد يبدو في بعض الأحيان ان الإقبال على الفلسفة أمر فاعل في هذا المضار. والحقيقة هي ان الفلاسفة الذين شيدوا الحداثة في الغرب، لم يكون هدفهم بلوغ ثمرة الحداثة والتجديد، ولم يتخذوا من الفلسفة واسطة لبلوغ هذا الهدف، وانما كانت الحداثة إفرازا لفكرهم.
في هذا اليوم لو اقبلت امة على الفلسفة متصورة انها الاساس أو المنطق لتحقيق الحداثة، فإنها لن تتعرف على الفلسفة ولن تدرك منها سوى القشور.
فلا يمكن بلوغ اي شيء من خلال اتخاذ الفلسفة وسيلة وواسطة، لأن الفلسفة لا تطيق اتخاذها وسيلة لتحقيق هدف ما.
بتعبير آخر: الفلسفة لن تنصاع لاستخدام أي أحد وأي شيء، ولو أصبحت وسيلة للإستخدام فانها لن تكون فلسفة قط.
إذا كان الأمر كذلك، فهل لا يوجد طريق يمكن الوصول به إلى الحداثة؟ فإذا كانت الحداثة لا تتحقق من دون فلسفة، واذا كانت الفلسفة غير مستعدة لأن تكون واسطة لتحقيق اي هدف، فكيف يمكن تحقيق الحداثة؟
المشكلة هي اننا فكرنا في الانضواء تحت لواء الحداثة في ذيل التاريخ الغربي. اي اننا عندما وضعنا اقدامنا في طريق الحداثة، كان الغرب قد وصل إلى نهاية الطريق. ولكن لو افترضنا ان الغرب وصل إلى نهاية الطريق، فما هي الأضرار التي تلحقها نهاية طريق الحداثة بالقوافل التي بدأت بالسير في هذا الطريق توا؟ أليس توقف الغرب في نهاية الطريق يعني ان القوافل التي شرعت بالسير فيه ستلحق بالغرب عاجلا ام آجلا، وهذا مما يبعث على الأمل والإنشراح؟
ان بلوغ نهاية الطريق له معنيان: الاول هو ان لسالك الطريق مقصد محدد ما أن يبلغه حتى ينتهي من السير ويتوقف، ويقيم هناك.
والثاني هو ان الطريق قد انتهى ولابد من التوقف إما لانتظار شق طريق آخر او لبذل الجهد والعمل على شق مثل هذا الطريق.
وينطبق هذا المعنى الثاني على نهاية طريق الحداثة. لذلك حينما ترد أخبار هذا التوقف إلى القوافل المتحركة في بداية هذا الطريق، ستضطرب نفوسها، وينبعث اليأس فيها، وتخور عزيمتها. والأمم التي يرتبط صدر تاريخ حداثتها بذيل تاريخ الغرب، فإنها حتى وإن لم تسمع بخبر نهاية الطريق، لكن ذلك التوقف سيؤثر على اوضاعها لارتباط حياتها بحياة الغرب.
المعضلة القائمة في العصر الراهن هي ان تاريخ الغرب خيم على تاريخنا بأسره، لذلك يتم استخدام المعايير والموازين الغربية عموما في كل مكان يتم فيه تناول ماضي الإنسان وخلفيته.
والعالم في عصرنا الراهن شطران: شطر حديث، وشطر يتصارع مع الحداثة. وإذا كان هذا التقسيم صحيحا، يكون تاريخ الحداثة والتحديث قد ألقى بظلاله على ماضي الإنسان ومستقبله. فبالرغم من ان الثقافات والتواريخ فقدت بريقها في عصر الحداثة. لكنها لم تحجب نهائيا لأن انتشار الغرب في بادئ الأمر لم يكن عن طريق الفلسفة والفكر، وانما عن طريق الصناعة والتجارة. بل حتى علم الغرب وسياسته يقعان بعد الصناعة والتجارة. فالسفراء الأوائل الذين ذهبوا إلى انجلترا واوربا، أعجبوا بالمصنوعات الجديدة، بينما لم يأبهوا للعلم والتطور العلمي، ولم يظهر الأسلوب السياسي الغربي عجيبا ولاغريبا في أعينهم.
وحتى ذلك النفر من السفراء والسواح والمسافرين الذين تحدثوا في تقاريرهم وكتب رحلاتهم عن السياسة الجديدة، لم تنتشر تلك التقارير والكتب انتشارا واسعا وقلما اقبل أحد على قراءتها، بل وحتى الذين قرأوها لم يشيروا اليها بشيء ولم يتعلموا منها شيئا