* د. محمّد سبيلا
يطغى على التحليلات الإقتصادية لمسألة التخلّف منظور اختزالي ضيّق يتمّ فيه اختزال كل مظاهر التخلّف إلى مجرد مظاهر إقتصادية؛ فسواء تعلّق الأمر بالتحليل الإقتصادي السطحي الذي يعالج مشاكل التخلّف إنطلاقاً من مؤشرات إقتصادية سطحية معتّمة الدلالة كالناتج القومي الخام، أو مستوى الدخل الفردي، أو نسب التمدرس والتشغيل والتطبيب أو نسبة الولادات والوفيات، أو مستوى التغذية مقاسة بالوحدات الحرارية، أو غيرها من المؤشرات، أو تعلّق الأمر بالمعالجة الإقتصادية الصرفة التي تنظر إلى التخلّف من خلال معايير الإنتاج والإستهلاك والتراكم وتوزيع المداخيل، والتوفير وغلبة النشاط الفلاحي على النشاط الصناعي، فإن مشكل التخلّف يؤول في كل هذه التحليلات إلى مجرّد مظاهر إقتصادية. وضمن هذا التصوّر يبدو أن مجرّد إقامة تنظيم إقتصادي عصري ومتحرّر من التبعية يكفي ليجعل هذه البُلدان تتدارك تأخّرها التاريخي وتقفز إلى مصافّ الدول المتقدّمة. مثل هذا المنظور الإقتصادي الذي يعتبر البنية الإقتصادية هي البنية الأساسية في كل مجتمع يوحي بأن تحديث الإقتصاد يكفي لتحقيق تحديث المجتمع برمّته، ويخلق الوهم بأن تجاوز التخلّف أمر يتعلّق فقط بالتخطيط الإقتصادي وإقامة صناعة وطنية، وكأن المسألة هي فقط مسألة تنظيمات إقتصادية ومسألة تقنيات ومسافة زمنية و"مراحل نمو" يتعيّن قطعها. وإذا كان هذا التحليل في حد ذاته مقبولاً في مستوى تشخيص البنية الإقتصادية فإنّه غير قابل للتعميم، ولا يجوز اختزال كل العوامل الأخرى فيه لتنوّعها وإستقلاليتها النسبية. إنّ هذا المنظور الاختزالي لا يسعف في فهم ظاهرة التأخّر التاريخي في شموليتها، بسبب إغفاله لأبعاد أخرى تاريخية وإجتماعية وثقافية وفكرية. فالتخلّف ليس فقط تخلفاً إقتصادياً – وإن طغى عليه المنظور الإقتصادي –، بل هو تخلّف إجتماعي وتاريخي وفكري أيضاً. فالمجتمعات المتخلّفة لم تشهد ولم تعانِ التحوّلات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الحديثة. فهي لم تشهد تحوّلات فكرية كبرى ولم تحقّق الثورات السياسية والمعرفية الكبرى للعصور الحديثة. وعلى مستوى الفكر نرى أنّ هذه المجتمعات لم تعرف الثورة الكوسمولوجية والثورة البيولوجية والثورة المعلوماتية وصناعة الإنسان الآلي وغيرها من التحوّلات الفكرية الكبرى التي حدثت على مستوى العلوم الإنسانية.
كما إنّ هذا التحليل يغفل البُعد التاريخي. فالتخلّف لم يحدث البارحة أو غداة دخول الإستعمار أو نتيجته فقط، بل إنّه واقع يضرب بجذوره في عمق تاريخ هذه المجتمعات. ذلك أنّ التوازن بين الحضارة العربية الإسلامية التي بلغت ذروتها في القرن العاشر الميلادي والحضارة الغربية، بدأ يختلّ لصالح هذه الأخيرة إبتداء من القرن الخامس عشر الميلادي مع بداية الفتوحات البحرية الأوروبية، ومع بداية النهضة الأوروبية واختراع الطباعة والإصلاح الديني، وغيرها من الأحداث الكبرى التي شكّلت العصر الحديث. وقد تواصل هذا الإختلال مع الثورات السياسية التي عاشتها أوروبا والتي أعطت أساساً جديداً للسلطة ثمّ مع الثورة الصناعية ومشتقاتها اللاحقة. وإذا كان العالم الإسلامي بزعامة العثمانيين قد ألحق ضربة كبرى بالعالم المسيحي بعد إحتلال القسطنطنية، ثمّ مع التوسّع العثماني في شرق أوروبا، فإنّ العالم المسيحي ردّ على ذلك باستعادة الأندلس (1492)، وإعلان حروب الإستراداد (Reconquista)، وبداية غزو الشواطئ العربية للبحر الأبيض والمتوسّط. وبعد ذلك تكبّدت الدولة العثمانية ضربات متلاحقة: الهزيمة أمام روسيا سنة 1774 التي انتهت بعقد اتّفاقية أعطت الروس إمتيازات سياسية وتجارية كبيرة، ثمّ إلحاق أجزاء من الإمبراطورية العثمانية بروسيا سنة 1763، ثمّ حملة نابليون على مصر سنة 1798. ضمن هذه الظروف التاريخية إذاً بدأ نوع من الإختلال بين مجموعتين حضاريتين كبيرتين، انتهى بتسلّط الإستعمار الأوروبي على أجزاء واسعة ممّا يسمى اليوم بالعالم الثالث.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المنظور الاختزالي يلغي البُعد الإجتماعي للتأخّر التاريخي المتمثّل في ركود البنيات الإجتماعية وطغيان العلاقات السلطوية وأولوية العلاقات الدموية والعادات والتقاليد العتيقة وروح الامتثال والمحافظة.
يصبح المنظور الإقتصادي للتخلّف أكثر إحراجاً حين يرتبط بأيديولوجية المركز وبإستراتيجية إدراج المجتمعات المتخلّفة في دائرة المركز وإلحاقها به وتحويلها، بإسم ضرورة التنمية، إلى سوق محلية للرأسمال الغربي. وإذا كان مفهوم التخلّف مفهوماً إقتصادياً، فإن مفهوم التبعية مفهوم إقتصادي سياسي. وإذا كانت نظريات النمو والتحديث تبحث عن أسباب التخلّف داخل البُلدان المتخلّفة ذاتها، فإنّ الإتّجاهات البنيوية المستلهمة لبعض الطروحات الماركسية حول الإمبريالية من حيث هي نتيجة تطوّر الرأسمالية، تُبرز بأنّه يجب البحث عن هذه الأسباب في العلاقات القائمة بين البُلدان المتقدّمة والبُلدان المتخلّفة، وذلك من حيث إنّ هذه العلاقات علاقات غير متناظرة أو غير متماثلة. وفي إطار هذه النظرية تنقلب الأدوار، حيث لم تعد البُلدان المتقدّمة هي التي تملك مفتاح التنمية، بل أصبحت تتحمّل مسؤولية التخلُّف. هذا بالإضافة إلى أنّ لهذه النظرية فضيلة تعيين المتّهم.
كانت نظريات التنمية والتحديث التي سادت الفكر الإقتصادي قبل ظهور نظرية التبعية كمنظور تحليلي جديد، تتجه إلى البحث عن أسباب التخلّف في البنيات الداخلية لهذه المجتمعات نفسها، وتبرز الدول المتقدّمة كما لو كانت هي أداة الخلاص من التخلّف عن طريق تقديم المساعدات ونقل الرساميل وإستيراد التكنولوجيا والخبرات وشراء الإلكترونيات والمصانع الجاهزة والآلات والتقنيات من الغرب. وبذلك يبدو أنّ أيديولوجيا التنمية تقوم على ربط البُلدان المتخلّفة بالمراكز الرأسمالية الصناعية وبتوسّعها الإقتصادي وتحويل هذه البُلدان إلى سوق لتصريف منتجات العالم الصناعي المتقدّم. بينما تميل نظرية التبعية إلى إلقاء التهمة على المجتمعات الصناعية المتقدمة بالأساس وكأنّها تودّ تبرئة ذمة المجتمعات المتخلّفة من مسؤولية تخلّفها، أو على الأقل تخفّف من مسؤوليتها تجاهه.
وعلى وجه العموم، إذا كان لمختلف النظريات الإقتصادية (سواء تعلُّق الأمر بنظرية المؤشرات الإقتصادية السطحية أو نظرية العوامل التي تحاول شرح التخلّف وتشخيص أسبابه، قدرة تفسيرية في مستوى تشخيص مظاهر وأسباب "التخلّف الإقتصادي" – في عصر يطغى فيه الإقتصاد والتحليل الإقتصادي – فإنّ هذه النظريات تتحوّل إلى نظريات اختزالية إذا ما حاولت تشخيص التأخّر التاريخي في شموليته. والتحليل الشمولي لهذه الظاهرة هو التحليل الذي يأخذ بعين الإعتبار تراتب وتداخل مختلف أبعاد الظاهرة كالبُعد السياسي المتمثّل في غياب هياكل ديمقراطية في المجتمع وسيطرة المجتمع السياسي على المجتمع المدني، والطابع الأوتوقراطي للدولة والبُعد التقني (سيطرة الإنتاج اليدوي، ضعف مردودية الإنتاج، ضآلة التأليل) والبُعد الإجتماعي المتمثّل في سيادة العلاقات السلطوية وسيادة علاقات وقيم الأسرة الكبيرة وأولوية علاقات القرابة وغيرها، بالإضافة طبعاً إلى البُعد الإقتصادي الذي يتم غالباً إبرازه إلى السطح، أمّا العنصر المسكوت عنه فهو التخلّف الفكري الإيبستيمولوجي والأيديولوجي.
المصدر: كتاب مدارات الحداثة