* علي حرب
- السياق العالمي:
إذا كانت الأزمة هي اليوم السمة البارزة للسياق العالمي الراهن، فإنّ السؤال الملح على المستوى العربي: كيف تواجه المجتمعات العربية التحديّات وتعالج الأزمات؟ كيف يخرج العرب من حالة العجز لكي يمارسوا حضورهم ومشاركتهم الفعَّالة في الحضارة العالمية بابتكاراتهم وإنجازاتهم؟
وإذا كانت الأزمة هي كونية، كما نسمع ونقرأ ونعاني مفاعليها وتداعياتها على غير صعيد، فإنّ الأزمة في العالم العربي هي مزمنة. ولذا فالكلام على هذا الشأن الحيوي والمصيري ليس جديداً، وإنّما هو قديم بدأ بعد أن استفاق العرب على عجزهم إزاء تفوُّق الغرب وتقدُّمه وغزوه لبلدانهم. ولكن الكلام على الأزمة يتجدّد طوراً بعد طور، ومشروعاً بعد مشروع، وإخفاقاً بعد إخفاق، في مواجهة الاستحقاقات الوجودية، بأسماء مختلفة وعناوين جديدة، فيكون مرّة مسألة الهوية، وأخرى مشكلة التقدُّم، وثالثة قضية التحرّر، ورابعة أزمة النمو أو التحديث.
- معنى الأزمة:
ومن المفارقات الكاشفة في هذا الخصوص، أنّ أهل النهضة عندما طرحوا سؤال التقدُّم كان المعيار والنموذج هو الغرب، بحسب الصيغة المشهورة: لماذا تقدّم الغربيون وتأخر السلمون؟ ولكنّ خارطة القوة والثروة قد تغيّرت على الساحة العالمية. إذ التحدي لم يعد من جهة الدول الغربية، ذلك أنّ هناك أُمماً أخرى، كانت وراء العرب، حضارياً، فإذا بها تتقدّم عليهم، كما هي حال اليابان ودول شرق آسيا، وكما هو اليوم شأن الدول الصاعدة على المسرح، كالصين والهند والبرازيل، بل إنّ هناك مسلمين يحرزون تقدُّماً، كما هي حال ماليزيا التي صنعت معجزتها التنموية، وكما هي حال تركيا التي باتت في صفّ الدول الناشئة التي تصنع تقدُّمها ونموها. وهكذا لم يُفلح العالم العربي في تقديم نموذج في الديموقراطية، ولا في التنمية. أمّا في ما يخصّ الهوية، فإنّ الدماغ عنها حولها إلى مشكلة، كما تشهد الفتن المذهبية والحروب الأهلية في غير بلد عربي.
وأنا إذ أتناول المسألة، فعلى صعيدها الفكري، من منطلق عملي وبأدوات حقل اختصاصي من شبكات الفهم وطرائق المعرفة وصيَغ العقلنة. ولذا فإنّي أحاول زحزحة المشكلة وقلب الآية أو تغيير الطريقة، بحيث أضع موضع المساءلة مهمة المثقفين والدعاة الذين مارسوا دور المصلح أو الثائر الذي ينظِّر لمشاريع التغيير والتقدُّم والتحديث. ومنطلقي إلى ذلك هو مقولتي بأنّ مشكلة المفكرين هي مع أفكارهم بالدرجة الأولى.
على هذا النحو أشخص الأزمة في العالم العربي بنوع خاص. فمشكلة العقلانية هي مع دعاتها والحرِّية مع عشاقها، تماماً كما أنّ مشكلة الحداثة هي مع الحداثيين الذين فشلوا في رهانها، بدليل أنّ المجتمعات العربية، المنخرطة أساساً في أعمال التحديث، منذ عصر النهضة، إنّما تتغيّر، إيجاباً أو سلباً، بعكس تصوّراتهم للعالم وسيناريوهاتهم للتغيير واستراتيجياتهم في التدخل. ومع ذلك فالحداثيون يرمون المسؤولية على غيرهم، فيما الأجدى إعادة النظر في مفهومهم للحداثة، إذ هي مكمن العلة.
- مصدر المشكلة:
من هنا يبدو لي أنّ كثيراً من السجالات الدائرة، ولا أقول كلّها، حول الأزمة في العالم العربي، وفي خارجه، إنّما تقفز عن المشكل، إذ هي تتم بنفس العقلية التي صنعت الأزمة، أو على الأقل تستخدم أدوات فكرية لا تساعد أو لا تسهم في شق وجهة جديدة لاجتراح الإمكان وتركيب الحلول المفضية إلى الخروج من المأزق الوجودي أو النفق الحضاري. بهذا المعنى مصدر الأزمة هو عند من يدّعي حلها.
من هنا، أيضاً، لم تعد تقنعني الإجابات والمقاربات السلبية، التي تضع الملامة على العرب من غير تمييز بين حقل وحقل أو بين عقلٍ وعقل، لكي تُطلق بحقهم، من لدن مثقفين ومفكِّرين ذوي أسماء لامعة وألقاب مشهورة، أحكاماً مبرمة، كما تطالعنا التقييمات والتصنيفات التي تعلن خروج العرب من التاريخ، أو التي تصفهم بكونهم الآن الرجل المريض في العالم، أو التي تؤكّد على احتضار الثقافة العربية أو على انقراض العرب الحضارية والرمزي.
وأصحاب هذه الأحكام المطلقة، إنّما يحكمون في النهاية على أنفسهم، إذ كيف يحتلون الصدارة، بوصفهم عقول الأُمّة وقادة الفكر وصنَّاع الرأي العام ومنتجي المعاني والقيَم، فيما هي على هذا الحال من العجز والتخلف أو التردي والتفكّك! كيف يحصل ما يحصل من الآفات والأعطال أو من المساوئ والكوارث مع وجود هذا الكمّ من المنظّرين والمحلّلين الذين يطلون عبر الصحف والشاشات! وإذا شئت تجاوز النطاق العربي أجدني أسأل: كيف تحصل أزمة مالية كارثية مع وجود حشود من العلماء والخبراء بترساناتهم النظرية وحواسيبهم الفائقة!
ولذا ما أراه، وما يجدر بنا أن نضطلع به، أقصد بذلك نحن العاملين في ميادين الفكر وفروع المعرفة، أن نرتد على ذاتنا ونكسر نخبويتنا المفخخة بالتهويمات النرجسية والادعاءات النبوية، بحيث يقوم الواحد بمراجعة تصوّراته ومفاهيمه ودوره وصورته عن نفسه واستراتيجيته في التدخل بالشأن العام، ونظرته إلى الفاعلين في بقية الحقول والقطاعات المجتمعية، وذلك من غير وجه.
- النبوة والوصاية:
1- الأوّل هو فكّ الوصاية النبوية وكسر العقلية النخبوية الفوقية والمركزية، التي توهم المفكِّرين المحترفين، من فلاسفة وعلماء، وبخاصة أصحاب المشاريع، بأنّهم يجسدون قيَم الحقيقة والحرِّية والعدالة، أو يحتكرون الوعي والعلم والمعرفة، أو يمتلكون مفاتيح الحلول لمشكلات مجتمع أو أُمّة أو البشرية جمعاء. وهم بذلك يمارسون احتقار العاملين في بقية القطاعات، بالتعامل معهم بوصفهم رعايا أو قاصرين يحتاجون إلى شخص استثنائي، نبي مبشّر أو مهدي منتظر أو فيلسوف منظّر، يلعب دور المنقذ والمخلص، بحيث ينوب عن الأُمّة أو المجتمع في التفكير والتقدير والتدبير، بوصفه أولى من الجميع بأنفسهم، على ما هو تعريف النبوة والوصاية.
ولكنّ ماذا كانت حصيلة هذه العقلية النبوية الرسولية؟ لقد انتظر العرب طويلاً، داعية بعد داعية، ومشروعاً بعد مشروع، وثورة بعد ثورة، ظهور المعجزة على يد قائد ملهم أو مهدي منتظر، يظهر بين الحشود العاجزة ليقلب الأوضاع المتردية رأساً على عقب، فكانت الحصيلة حصد التراجعات وانهيار المشاريع وترجمة الشعارات بأضدادها، كما نعاني على غير صعيد، وكما تفاجئنا الانتهاكات والإفلاسات والفضائح. ولا غرابة. إنّ عقلية الذوبان في الشعار أو القضية وتأليه الشخص أو النصّ وممارسة طقوس العبادة للزعيم والقائد والمرشد والبطل المنقذ، هي نقيض العقلانية والاستنارة والحرِّية والديموقراطية، بقدر ما تصنع القطعان البشرية والكُتل العمياء التي هي مادة الاستبداد وآلة الإرهاب، ولذا فهي لا تحقّق تقدّماً، بل نخنق الحيوية وتشلّ الطاقة على الإبتكار للحلول والمخارج.
2- أن نمارس التُقى الفكري والتواضع المعرفي، بحيث نعترف بأنّ التفكير لا يحتكره المفكِّرون المحترفون. فمن السذاجة والجهل والعسف الإعتقاد بذلك، لأنّ الفكر ليس "مهنة" لفئة خاصة من الناس، بل هو "ميزة" الإنسان عامة. وهذا هو مؤدى مقولة ديكارت، "أنا أفكر إذن أنا موجود": علاقة الإنسان بوجوده هي علاقة تفكُّر وتأمُّل أو تعقُّل وتدبُّر، بقدر ما هي علاقة ابتكارٍ وتجديد أو تطوير. ولذا لا ينجح عمل أو مشروع ما لم يمارس صاحبه علاقته بكفره بصورة خلّاقة وفعّالة، بصرف النظر عن المهن والصناعات أو الحقول والقطاعات. ومن الشواهد الحيّة على ذلك أنّه عندما سئل رجل الأعمال المكسيكي، اللبناني الأصل، كارلوس سليم الذي هو من أغنى أغنياء العالم، كيف يبدأ يومه، أجاب بعقل ديكارتي: قبل البدء بالاطّلاع على الرسائل والمستجدات أو إجراء الحسابات والصفقات، أكرس الساعة الأولى للتفكير والتأمُّل (Je Pense). مما يعني أنّ المقولة الديكارتية لا تصوغ فقط علاقة ديكارت بفكره، بل تصوغ العلاقة بين الفكر الحي والمتجدّد، وبين الوجود المزدهر لدى كل فرد فاعل في عمله ومجتمعه أو عالمه.
- العين النقدية:
3- أن نصحو من السبات. فهناك أناس لا يحملون لقب المفكّر، إنّما يمارسون علاقتهم بفكرهم بصورة خصبة ومثمرة، سواء في عالم الأعمال أو في دنيا الإعلام أو في قطاع المصارف او في ميدان الرياضة الذي هو قطاع وجودي مزدهر. ولا ازدهار من غير فكر متحرّك متطوّر متجدّد. وفي المقابل هناك عاملون في ميادين الفكر تناط بهم مهمة الاشتغال على الأفكار لتجديد أُطر النظر وأنساق المعرفة وصيَغ العقلنة، لم يجدّدوا حرفاً في الأفكار التي يتداولونها منذ عقود، على ما هي علاقتهم بمفردات العلمانية والعقلانية والديموقراطية، فضلاً عن التقدّم والماركسية والاشتراكية... ومن المعلوم أنّ هذه العناوين تخضع بصورة دائمة، حيث نشأت في المجتمعات الغربية، لإعادة النظر والبناء، على وقع التحوُّلات، على سبيل التجديد والتطوير أو التوسيع والإثراء، وعلى نحوٍ يطال المفاهيم والأُطر والقواعد وميادين الممارسة.
ولو توقفنا عند مسألة الديموقراطية، مثالاً، نجد بأنّها تخضع، في ضوء الأزمات والإخفاقات والتحوّلات، إلى المراجعة الدائمة لإعادة تركيب المفهوم على سبيل التوسيع والإغناء، في ما يخصّ أشكال وآليات التعبير والتنظيم والمراقبة والمشاركة، وذلك من خلال إعادة ترتيب العلاقة بين مفهوم الديموقراطية وبين شبكة من المفاهيم التي ترتبط بها، كالمشروعية، والعمومية، والمواطنية، والكونية، فضلاً عن التجمّعات والمنظمات الأهلية والمدنية أو المدينية. هذا ما يفعله، مثالاً، في فرنسا بيار روزانفالون. أمّا في ألمانيا، فإنّ الفيلسوف هابر ماس يعيد بناء المفهوم، عبر ربطه باللغة التي هي الوسيط لما تتطلبه الديموقراطية أو العمل المشترك من التحاور والتداول.
- ديناصورات حداثية:
4- ولكنّ الوضع عندما مختلف. لأن من يفترض بهم ممارسة النقد لتشخيص العلّة وتفكيك الأزمة، إنّما يهربون من هذه المهمة، لكي يشتغلوا بحراسة أفكارهم ولوك شعاراتهم التي تحوّلت إلى أصنام نظرية ومتحجرات فكرية بعد عقود من الدعوة إلى التحديث. كما يتجسّد ذلك في خطابات المثقفين والدُعاة الذين باتوا أشبه بديناصورات حداثية. ولذا تراهم يتخيّلون مستقبل العرب الآتي كما كان ماضي أوروبا في القرن السابع عشر أو الثامن عشر. وهكذا فهم لا يمارسون التخيّل على سبيل الخلق والإبتكار، من أجل تجديد العناوين والمفاهيم. لأنّ الشاغل والمقصد، عندهم، ليس فهم المجريات وإنتاج معارف ثمينة أو شبكات مفهومية فعّالة حول الواقع والعالم، بل المناضلة مدافعةً وتبجيلاً، أو هجوماً وتبخيساً. والحصيلة هي تراجع لا تقدّم، تعطيل للطاقة وليس إطلاق القوى الحيّة، تفويت للفرص بدلاً من فتح الإمكانات والآفاق.
ومن هنا لم تعد القضية أن ندافع عن الحداثة والعلمانية والعقلانية والحرِّية، بل لماذا تتراجع هذه العناوين عما كانت عليه قبل عقود، لكي تصبح أسماء على غير مسميات. هذه هي المشكلة التي يصنعها التعامل مع شعارات الحداثة بعقل تقليدي، لاهوتي، أصولي، أحادي.
ولا أراني أبالغ. فأسئلة الواقع صارخة وفاضحة: من هو أقرب إلى قيَم التقدّم والتحديث والتنمية، ديناصور فكري لا يحسن تحدث مفاهيمه، أم مصمّم الأزياء المبتكر أو صاحب المصرف المزدهر أو رجل الأعمال الناجح؟ لنعترف بالواقع حتى نعرف كيف نجد المخارج أو نفتح الإمكان لتركيب الحلول: لقد فقدنا المصداقية من حيث علاقتنا بالقيَم. فمجتمعنا الثقافي ليس مملكة للفضيلة، ربّما يكون أسوأ من القطاعات الأخرى من حيث علاقاتنا فيما بيننا، لأنّنا لا نحسن سوى انتهاك شعاراتنا حول الحرِّية والعدالة والأمانة، كما تشهد حروبنا الرمزية العنيفة التي تجسد استراتيجية الفرض والإلغاء أو إرادة التحطيم والتهشيم.
وأما من حيث الفاعلية فإن انهيار مشاريعنا قد جعلنا نقف على الهامش بالنسبة إلى الكتلة الأصولية. ومنهم من يتبنى شعاراتها ويؤيد سياسة زعمائها ومرشديها من رجال الدين. وتلك هي فضيحة المثقف الحداثي الذي يتّهم بالتخلُّف من يستثمرون طاقتهم الفكرية بصورةٍ مبتكرة وبنّاءة في مجالات عملهم لتحسين أوضاعهم أو لتغيير واقعهم، فيما المثقّف لم ينجح في ما هو مطلوب منه، أي تغيير عدّته الفكرية، بقدر ما يفكّر بصورة تقليدية أو عقيمة أو معكوسة. وهذا ما يفسّر كيف أنّ العالم يتغيّر بعكس ما أراد له المثقفون.
ولا يعني ذلك أنّ الأصولية التي تجتاح الساحات والجامعات والشاشات، قد نجحت في ما ادعته أو طرحته. بالعكس، فكل ما فعلته هو نقيض ما طالبت به أو أعلنت محاربته. إذ هي لم تفلح لا في جلب المصالح ولا في درء المخاطر والمفاسد، بل هي تكاد تطيح بما حققته المجتمعات العربية الحديثة من المكتسبات في سعيها الحثيث إلى التقدّم والبناء. ولا عجب في ذلك، لأنّ الأصولية قد أتت أساساً للثأر والانتقام من مجريات العالم المعاصر ومنجزاته، ولذا فهي لا تشكّل صحوةً تنويرية أو موجةً حضارية، بل حركةً ارتدادية إلى الوراء، مما يجعلها تعيش زمنها وتمارس هويتها بصورة مدمّرة أو بربرية، وتلك هي الفضيحة والكارثة.
وهكذا، فالمثقف الحداثي والداعية التراثي كلاهما فشلاً في المهمة، إذ كلاهما غلّب النص والعقيدة والطائفة أو الشعار والحزب والزعيم على الأُمّة والمجتمع والدولة والجمهورية والمصلحة العمومية. وتلك هي حصيلة الثقافة الأيديولوجية، الآحادية، الاصطفائية، المغلقة، العدوانية التي تقوم على تقديس الأسماء والتعلّق بالأشياء حتى أضدادها. ولا غرابة فمن يقدّس شيئاً ينتهكه بقدر ما يتواطأ مع ضدّه، أو يقع ضحيته بقدر ما يستبد به. ولعل هذا ما يفسّر لقاء الضدين الأوصولي والعلماني.
المصدر: كتاب المصالح والمصائر (صناعة الحياة المشتركة)