* علي حرب
- السياق العالمي:
إذا كانت الأزمة هي اليوم السمة البارزة للسياق العالمي الراهن، فإنّ السؤال الملِّح على المستوى العربي: كيف تواجه المجتمعات العربية التحديات وتعالج الأزمات؟ كيف يخرج العرب من حالة العجز لكي يمارسوا حضورهم ومشاركتهم الفعّالة في الحضارة العالمية بإبتكاراتهم وإنجازاتهم؟
وإذا كانت الأزمة هي كونية، كما نسمع ونقرأ ونعاني مفاعيلها وتداعياتها على غير صعيد، فإنّ الأزمة في العالم العربي هي مزمنة. ولذا فالكلام على هذا الشأن الحيوي والمصيري ليس جديداً، وإنّما هو قديم بدأ بعد أن استفاق العرب على عجزهم إزاء تفوُّق الغرب وتقدمه وغزوه لبلدانهم. ولكن الكلام على الأزمة يتجدّد طوراً بعد طور، ومشروعاً بعد مشروع، وإخفاقاً بعد إخفاق، في مواجهة الاستحقاقات الوجودية، بأسماء مختلفة وعناوين جديدة، فيكون مرة مسألة الهوية وأخرى مشكلة التقدم، وثالثة قضية التحرّر، ورابعة أزمة النمو أو التحديث.
- معنى الأزمة:
ومن المفارقات الكاشفة في هذا الخصوص، أن أهل النهضة عندما طرحوا سؤال التقدّم كان المعيار والنموذج هو الغرب، بحسب الصيغة المشهورة: لماذا تقدّم الغربيون وتأخر المسلمون؟ ولكنّ خارطة القوة والثروة قد تغيّرت على الساحة العالمية. إذ التحدي لم يعد من جهة الدول الغربية، ذلك أن هناك أُمماً أخرى، كانت وراء العرب، حضارياً، فإذا بها تتقدّم عليهم، كما هي حال اليابان ودول شرق آسيا، وكما هو اليوم شأن الدول الصاعدة على المسرح، كالصين والهند والبرازيل، بل إنّ هناك مسلمين يحرزون تقدّماً، كما هي حال ماليزيا التي صنعت معجزتها التنموية، وكما هي حال تركيا التي باتت في صف الدول الناشئة التي تصنع تقدّمها ونموها. وهكذا لم يُفلح العالم العربي في تقديم نموذج في الديموقراطية، ولا في التنمية. أمّا في ما يخصّ الهوية، فإنّ الدفاع عنها حولها إلى مشكلة، كما تشهد الفتن المذهبية والحروب الأهلية في غير بلد عربي.
وأنا إذ أتناول المسألة، فعلى صعيدها الفكري، من منطلق عملي وبأدوات حقل إختصاصي من شبكات الفهم وطرائق المعرفة وصيَغ العقلنة. ولذا فإنّي أحاول زحزحة المشكلة وقلب الآية أو تغيير الطريقة، بحيث أضع موضع المساءلة مهمة المثقفين والدعاة الذين مارسوا دور المصلح أو الثائر الذي ينظّر لمشاريع التغيير والتقدّم والتحديث. ومنطلقي إلى ذلك هو مقولتي بأن مشكلة المفكّرين هي مع أفكارهم بالدرجة الأولى.
على هذا النحو أشخص الأزمة في العالم العربي بنوع خاص. فمشكلة العقلانية هي مع دعاتها والحرِّية مع عشاقها، تماماً كما أن مشكلة الحداثة هي مع الحداثيين الذين فشلوا في رهانها، بدليل أنّ المجتمعات العربية، المنخرطة اساساً في أعمال التحديث، منذ عصر النهضة، إنّما تتغيّر، إيجاباً أو سلباً، بعكس تصوُّراتهم للعالم وسيناريوهاتهم للتغير وإستراتيجياتهم في التدخل. ومع ذلك فالحداثيون يرمون المسؤولية على غيرهم، فيما الأجدى إعادة النظر في مفهومهم للحداثة، إذ هي مكمن العلة.
- مصدر المشكلة:
من هنا يبدو لي أن كثيراً من السجالات الدائرة، ولا أقول كلّها، حول الأزمة في العالم العربي، وفي خارجه، إنّما تقفز عن المشكل، إذ هي تتم بنفس العقلية التي صنعت الأزمة، أو على الأقل تستخدم أدوات فكرية لا تساعد أو لا تسهم في شق وجهة جديدة لإجتراح الإمكان وتركيب الحلول المفضية إلى الخروج من المأزق الوجودي أو النفق الحضاري. لهذا المعنى مصدر الأزمة هو عند مَن يدّعي حلها.
من هنا، أيضاً، لم تعد تقنعني الإجابات والمقاربات السلبية، التي تضع الملامة على العرب من غير تمييز بين حقل وحقل أو بين عقلٍ وعقل، لكي تُطلق بحقهم، من لدن مثقفين ومفكّرين ذوي أسماء لامعة وألقاب مشهورة، أحكاماً مبرمة، كما تطالعنا التقييمات والتصنيفات التي تعلن خروج العرب من التاريخ، أو التي تصفهم بكونهم الآن الرجل المريض في العالم، أو التي تؤكِّد على احتضار الثقافة العربية أو على انقراض العرب الحضاري والرمزي.
وأصحاب هذه الأحكام المطلقة، إنّما يحكمون في النهاية على أنفسهم، إذ كيف يحتلون الصدارة، بوصفهم عقول الأُمّة وقادة الفكر وصنّاع الرأي العام ومنتجي المعاني والقيَم، فيما هي على هذا الحال من العجز والتخلف أو التردي والتفكّك! كيف يحصل ما يحصل من الآفات والأعطال أو من المساوئ والكوارث مع وجود هذا الكمّ من المنظّرين والمحلّلين الذين يطلون عبر الصحف والشاشات! وإذا شئت تجاوز النطاق العربي أجدني أسأل: كيف تحصل أزمة مالية كارثية مع وجود حشود من العلماء والخبراء بترساناتهم النظرية وحواسيبهم الفائقة!
ولذا ما أراه، وما يجدر بنا أن نضطلع به، أقصد بذلك نحن العاملين في ميادين الفكر وفروع المعرفة، أن نرتد على ذاتنا ونكسر نخبويتنا المفخخة بالتهويمات النرجسية والادعاءات النبوية، بحيث يقوم الواحد بمراجعة تصوّراته ومفاهيمه ودوره وصورته عن نفسه وإستراتيجيته في التدخل بالشأن العام، ونظرته إلى الفاعلين في بقية الحقول والقطاعات المجتمعية، وذلك من غير وجه.
- النبوّة والوصاية:
1- الأوّل هو فك الوصاية النبويّة وكسر العقلية النخبوية الفوقية والمركزية، التي توهم المفكّرين المحترفين، من فلاسفة وعلماء، وبخاصة أصحاب المشاريع، بأنّهم يجسدون قيَم الحقيقة والحرِّية والعدالة، أو يحتكرون الوعي والعلم والمعرفة، أو يمتلكون مفاتيح الحلول لمشكلات مجتمع أو أُمّة أو البشرية جمعاء. وهم بذلك يمارسون إحتقار العاملين في بقية القطاعات، بالتعامل معهم بوصفهم رعايا أو قاصرين يحتاجون إلى شخص إستثنائي، نبي مبشّر أو مهدي منتظر أو فيلسوف منظّر، يلعب دور المنقذ المخلص، بحيث ينوب عن الأُمّة أو المجتمع في التفكير والتقدير والتدبير، بوصفه أولى من الجميع بأنفسهم، على ما هو تعريف النبوّة والوصاية.
ولكن ماذا كانت حصيلة هذه العقلية النبويّة الرسولية؟ لقد انتظر العرب طويلاً، داعية بعد داعية، ومشروعاً بعد مشروع، وثورة بعد ثورة، ظهور المعجزة على يد قائد ملهم أو مهدي منتظر، يظهر بين الحشود العاجزة ليقلب الأوضاع المتردية رأساً على عقب، فكانت الحصيلة حصد التراجعات وانهيار المشاريع وترجمة الشعارات بأضدادها، كما نعاني على غير صعيد، وكما تفاجئنا الانتهاكات والإفلاسات والفضائح. ولا غرابة. إن عقلية الذوبان في الشعار أو القضية وتأليه الشخص أو النصّ وممارسة طقوس العبادة للزعيم والقائد والمرشد والبطل المنقذ، هي نقيض العقلانية والاستنارة والحرِّية والديموقراطية، بقدر ما تصنع القطعان البشرية والكُتل العمياء التي هي مادة الاستبداد وآلة الإرهاب. ولذا فهي لا تحقق تقدّماً، بل تخنق الحيوية وتشلّ الطاقة على الإبتكار للحلول والمخارج.
2- أن نمارس التُقى الفكري والتواضع المعرفي، بحيث نعترف بأن التفكير لا يحتكره المفكّرون المحترفون. فمن السذاجة والجهل والعسف الإعتقاد بذلك، لأنّ الفكر ليس "مهنة" لفئة خاصّة من الناس، بل هو "ميزة" الإنسان عامّة. وهذا هو مؤدى مقولة ديكارت، "أنا أفكر إذن أنا موجود": علاقة الإنسان بوجوده هي علاقة تفكُّر وتأمُّل أو تعقُّل وتدبُّر، بقدر ما هي علاقة إبتكارٍ وتجديد أو تطوير. ولذا لا ينجح عمل أو مشروع ما لم يمارس صاحبه علاقته بفكره بصورة خلّاقة وفعّالة، بصرف النظر عن المهن والصناعات أو الحقول والقطاعات. ومن الشواهد الحيّة على ذلك أنّه عندما سئل رجل الأعمال المكسيكي، اللبناني الأصل، كارلوس سليم الذي هو من أغنى أغنياء العالم، كيف يبدأ يومه، أجاب بعقل ديكارتي: قبل البدء بالاطّلاع على الرسائل والمستجدات أو إجراء الحسابات والصفقات، أكرس الساعة الأولى للتفكير والتأمّل (Je Pense). ممّا يعني أنّ المقولة الديكارتية لا تصوغ فقط علاقة ديكارت بفكره، بل تصوغ العلاقة بين الفكر الحي والمتجدد، وبين الوجود المزدهر لدى كل فرد فاعل في عمله ومجتمعه أو عالمه.
- العين النقدية:
3- أن نصحو من السبات. فهناك أناس لا يحملون لقلب المفكّر، إنّما يمارسون علاقتهم بفكرهم بصورة خصبة ومثمرة، سواء في عالم الأعمال أو في دنيا الإعلام أو في قطاع المصارف أو في ميدان الرياضة الذي هو قطاع وجودي مزدهر. ولا ازدهار من غير فكر متحرّك متطوّر متجدّد. وفي المقابل هناك عاملون في ميادين الفكر تناط بهم مهمة الإشتغال على الأفكار لتجديد أُطر النظر وأنساق المعرفة وصيَغ العقلنة، لم يجددوا حرفاً في الأفكار التي يتداولونها منذ عقود، على ما هي علاقتهم بمفردات العلمانية والعقلانية والديموقراطية، فضلاً عن التقدّم والماركسية والإشتراكية... ومن المعلوم أن هذه العناوين تخضع بصورة دائمة، حيث نشأت في المجتمعات الغربية، لإعادة النظر والبناء، على وقع التحوّلات، على سبيل التجديد والتطوير أو التوسيع والإثراء، وعلى نحوٍ يطال المفاهيم والأُطر والقواعد وميادين الممارسة.
ولو توقفنا عند مسألة الديموقراطية، مثالاً، نجد بأنّها تخضع، في ضوء الأزمات والإخفاقات والتحوّلات، إلى المراجعة الدائمة لإعادة تركيب المفهوم على سبيل التوسيع والإغناء، في ما يخصّ أشكال وآليات التعبير والتنظيم والمراقبة والمشاركة، وذلك من خلال إعادة ترتيب العلاقة بين مفهوم الديموقراطية وبين شبكة من المفاهيم التي ترتبط بها، كالمشروعية، والعمومية، والمواطنية، والكونية، فضلاً عن التجمعات والمنظمات الأهلية والمدنية أو المدينية. هذا ما يفعله، مثالاً، في فرنسا بيار روزانفالون. أمّا في ألمانيا، فإنّ الفيلسوف هابرماس يعيد بناء المفهوم، عبر ربطه باللغة التي هي الوسيط لما تتطلبه الديموقراطية أو العمل المشترك من التحاور والتداول.
- ديناصورات حداثية:
4- ولكنّ الوضع عندنا مختلف. لأن من يفترض بهم ممارسة النقد لتشخيص العلّة وتفكيك الأزمة، إنّما يهربون من هذه المهمة، لكي يشتغلوا بحراسة أفكارهم ولك شعاراتهم التي تحوّلت إلى أصنام نظرية ومتحجرات فكرية بعد عقود من الدعوة إلى التحديث. كما يتجسّد ذلك في خطابات المثقفين والدُعاة الذين باتوا أشبه بديناصورات حداثية. ولذا تراهم يتخيّلون مستقبل العرب الآتي كما كان ماضي أوروبا في القرن السابع عشر أو الثامن عشر. وهكذا فهم لا يمارسون التخيّل على سبيل الخلق والإبتكار، من أجل تجديد العناوين والمفاهيم. لأن الشاغل والمقصد، عندهم، ليس فهم المجريات وإنتاج معارف ثمينة أو شبكات مفهومية فعّالة حول الواقع والعالم، بل المناضلة مدافعةً وتبجيلاً، أو هجوماً وتبخيساً. والحصيلة هي تراجع لا تقدّم، تعطيل للطاقة وليس إطلاق القوى الحيّة، تفويت للفرص بدلاً من فتح الإمكانات والآفاق.
ومن هنا لم تعد القضية أن ندافع عن الحداثة والعلمانية والعقلانية والحرِّية، بل لماذا تتراجع هذه العناوين عما كانت عليه قبل عقود، لكي تصبح أصماء على غير مسميات. هذه هي المشكلة التي يصنعها التعامل مع شعارات الحداثة بعقل تقليدي، لاهوتي، أصولي، أحادي.
ولا أراني أبالغ. فأسئلة الواقع صارخة وفاضحة: من هو أقرب إلى قيَم التقدُّم والتحديث والتنمية، ديناصور فكري لا يحسن تحديث مفاهيمه، أم مصمم الأزياء المبتكر أو صاحب المصرف المزدهر أو رجل الأعمال الناجح؟ لنعترف بالواقع حتى نعرف كيف نجد المخارج أو نفتح الإمكان لتركيب الحلول: لقد فقدنا المصداقية من حيث علاقتنا بالقيَم. فمجتمعنا الثقافي ليس مملكة للفضيلة، ربّما يكون أسوأ من القطاعات الأخرى من حيث علاقاتنا فيما بيننا، لأنّنا لا نحسن سوى انتهاك شعاراتنا حول الحرِّية والعدالة والأمانة، كما تشهد حروبنا الرمزية العنيفة التي تجسد إستراتيجية الرفض والإلغاء أو إرادة التحطيم والتهشيم.
وأمّا من حيث الفاعلية فإن انهيار مشاريعنا قد جعلنا نقف على الهامش بالنسبة إلى الكتلة الأصولية. ومنهم من يتبنى شعاراتنا ويؤيّد سياسة زعمائها ومرشديها من رجال الدين. وتلك هي فضيحة المثقف الحداثي الذي يتّهم بالتخلُّف من يستثمرون طاقتهم الفكرية بصورة مبتكرة وبنّاءة في مجالات عملهم لتحسين أوضاعهم أو لتغيير اقعهم، فيما المثقّف لم ينجح في ما هو مطلوب منه، أي تغيير عدّته الفكرية، بقدر ما يفكّر بصورة تقليدية أو عقيمة أو معكوسة. وهذا ما يفسّر كيف أنّ العالم يتغيّر بعكس ما أراد له المثقّفون.
ولا يعني ذلك أنّ الأصولية التي تجتاح الساحات والجامعات والشاشات، قد نجحت في ما ادعته أو طرحته. بالعكس، فكل ما فعلته هو نقيض ما طالبت به أو أعلنت محاربته. إذ هي لم تفلح لا في جلب المصالح ولا في درء المخاطر والمفاسد، بل هي تكاد تطيح بما حققته المجتمعات العربية الحديثة من المكتسبات في سعيها الحثيث إلى التقدّم والبناء. ولا عجب في ذلك لأنّ الأصولية قد أتت أساساً للثأر والإنتقام من مجريات العالم المعاصر ومنجزاته، ولذا فهي لا تشكّل صحوةً تنويرية أو موجةً حضارية، بل حركةً ارتدادية إلى الوراء، ممّا يجعلها تعيش زمنها وتمارس هويتها بصورة مدمّرة أو بربرية، وتلك هي الفضيحة والكارثة.
وهكذا، فالمثقّف الحداثي والداعية التراثي كلاهما فشلا في المهمة، إذ كلاهما غلّب النصّ والعقيدة والطائفة أو الشعار والحزب والزعيم على الأُمّة والمجتمع والدولة والجمهورية والمصلحة العمومية. وتلك هي حصيلة الثقافة الأيديولوجية، الآحادية، والاصطفائية، المغلقة، العدوانية التي تقوم على تقديس الأسماء والتعلق بالأشياء حتى أضدادها. ولا غرابة فمن يقدّس شيئاً ينتهكه بقدر ما يتواطأ مع ضدّه، أو يقع ضحيته بقدر ما يستبد به. ولعل هذا ما يفسّر لقاء الضدين الأصولي والعلماني.
- العضلة والمعرفة:
5- والدرس الآخر هو أنّ المخرج من النفق هو أن ينفتح المفكّرون والمحترفون على بقية القطاعات. إذ لا أحد ينوب مناب سواه أو يفكر عن غيره، مادام التفكير ميزة الإنسان. ومن نفكّر عنه أو يرمي سلاح التفكير الحي، يفقد أولاً إنسانيته، أي ميزته وجدراته، ويتحوّل إلى آلة أو مادة أو إلى عبد وتابع، كما يفقد فاعليته، بقدرؤ ما لا يمارس حيويته الفكرية ولا يحسن تشغيل طاقته العقلية، سيما اليوم، حيث العمل المنتج، يعتمد على المعرفة أكثر ممّا يعتمد على العضلة. فلا يعقل أن يصلح مجتمع يفكر عنه حفنة من المثقفين، فيما الأكثرية الساحقة من الناس لا تبالي بأفكارهم ومناقشاتهم وسجالاتهم.
لا يعني ذلك أنّ العلة تكمن في أنّ الأفكار والحلول التي ينتجها أو يبتكرها المفكّرون، لا تصل إلى عموم الناس. وإنّما هي أنّنا لا نحسب حساباً لما يفكر به العاملون في بقية القطاعات، ولا نأخذ بعين الإعتبار دورهم في تشخيص المشكلات وإبتكار الحلول، بقدر ما نتعامل معهم بوصفهم جمهوراً لا يعقل أو قطيعاً لا يفكر. فما يحتاج إليه النهوض والإصلاح والتحديث، هو أن يتصرّف كل فرد بوصفه منتجاً وفاعلاً ومشاركاً ومسؤولاً، أي بوصفه يستطيع المساهمة في التشخيص والمعالجة، ولو في الحد الأدنى، أي على مستوى حقله وقطاعه. فالكل مختصون وفاعلون بقدر ما هم مسؤولون ومشاركون.
- صناعة مشتركة:
6- لم يُعد يُجدي واحدنا، وأنا أعني نفسي قبل غيري أن ننزه أنفسنا ونرمي الملامة على سوانا، أو أن نتحدّث عن العرب ككتلة واحدة متجانسة. هناك في العالم العربي نُخب فاشلة وجماهير وساسة مستبدة، ولكن هناك في المقابل أُناس يمارسون حيويتهم وجدارتهم وعالميتهم، على سبيل الخلق والإبتكار في حقول عملهم ومجالات فعلهم.
وما يحتاج إليه المثقّفون هو الخروج من القوقعة النرجسية، بحيث يتصرّفون بوصفهم أصحاب مهن يعملون بخصوصيتهم كبقية العاملين في مختلف الميادين، ويؤثّرون في مجتمعهم وعالمهم، بقدر ما يتقنون عملهم، كما هو شأن كل فاعل أكان فيلسوفاً أم تاجراً، لاعب كرة أم سائقاً بالأجرة. ولا نستهين بأحد، فإن مضارباً واحداً قد يغيِّر مسار الدورة الإقتصادية، أو يحدث الضرر بالإقتصاد، تماماً كما أن سائقاً بالأجرة يعرقل السير، قد يحيل المرور في المدينة المعاصرة إلى جحيم. وبالعكس، إنّ سائقاً يحترم القواعد ويتمتع بالذوق السليم هو فاعل إيجابي، بعكس مثقّف يفبرك اللغو الإيديولوجي أو داعية يمارس الشعوذة الفكرية.
لنعترف كي نساهم في حل المشكلات المستعصية والمتفاقمة. فالحلول لا يمتلكها فرد أو قلة أو نخبة، وإنّما هي عملية متواصلة وسيرورة متنامية، بقدر ما هي صناعة مشتركة ينخرط فيها جميع الفاعلين، كلٌّ في حقل عمله ودائرة إختصاصه. وإذا كان المشتغلون بالإنتاج الفكري والرمزي، من المعارف والنظريات والمناهج والقيم والقواعد، إنّما يسهمون في تنوير الناس وفي تشكيل وعيهم، فإن ما يبتكره الفلاسفة والعلماء، إنّما يتغذى ويتجدد بالإنفتاح على ميادين الممارسة وحقول الإنتاج في مختلف القطاعات والميادين، أي على ما يفكر فيه الناس أو يقترحونه في أي دائرة من دوائر عملهم. ومن نتعالى عليهم أو نستبعدهم أو لا نحسن التداول معهم، يصنعوننا على شاكلتهم، إذ هم شركاء لنا في صنع المصائر، بقدر ما يعرقلون المشاريع وتعطلون مسيرة الإنماء والبناء.
بهذا المعنى إنّ المجتمع الديناميكي، الغني والمزدهر بقواه وفاعليته، هو الذي يشتغل كورشة دائمة من التفكير الخصب والعمل المثمر في مختلف المجالات، بقدر ما يتحوّل إلى فضاء للتداول وإلى شبكة من التأثيرات المتبادلة على جميع الصُعد والمستويات. وفي مجتمعٍ كهذا يعمل الأفراد والمجموعات بمفردات الإعتراف والتعدّد والتوسيط، بقدر ما يفكرون بلغة الخلق والتحوّل، أو بعقلية التركيب والتجاوز. ولعلّ هذا ما تقتضيه صناعة الإنماء والازدهار والتقدّم التي تبقى مفتوحة على التعدّد والتنوّع في الصيَغ والنماذج، بقدر ما تصدر عن أصالة المعالجات وغنى التجارب، وبقدر ما تجسّد القدرة على الإبتكار والتجديد في العناوين والمفاهيم أو في المناهج والأساليب، أو في المحاور والميادين.
إنّ العقل التنويري ليس مجرد محفوظات عن عصر الاستنارة نرددها مقالة بعد مقالة، ولا هي عناوين نتعامل معها بعقلية شعاراتية تبجيلية. وإنّما هي قدرة الواحد على أن يخلق ويخرق ويجدّد، لكي يتغيّر علاقاته بمفردات وجوده، ويعيد تشكيل عالمه من جديد، باقتحام مناطق للتفكير مستبعدة أو مجهولة أو مستحدثة...
وأراني هنا أطرح السؤال: من هم أهم التحديث والتطوير والتقدم.. هل هم منظّرو الحداثة والعقلانية والحرِّية الذين حولوا الشعارات إلى أختام على العقل تسجن الفكر وتنتج الأزمات، أنّ العاملون في القطاعات الأخرى مثل مصمّم الأزياء المبتكر أو صاحب المصرف المزدهر أو مدير المنتخب الرياضي الناجح أو الصحيفة المميّزة التي تناول جائزة عالمية أو منشئ القناة التلفزيونية الكوكبية أو المهندسة المعمارية الكوسموبوليتية أو فِرَق المجتمع المدني التي يهتم أفرادها بتنظيف البيئة والاعتناء بالحيوان، دون أن أنسى الروائي أو الشاعر أو الفنان الذي يمارس، عبر إبداعه، جدراته وعالميته من غير ادّعاءٍ أو تنظير؟ هذا السؤال يدفعني إلى القول: ما عدنا، دعاةً ومثقفين، الأوصياء والوكلاء والأمناء على القيَم والحقوق والمصالح التي هي شأن عام يخص كل الناس. لقد فقدنا المصداقية منذ زمن. وكما أنّ الداعية التراثي بات الأقل تديناً وتقىً، فإن المثقّف الحداثي بات أقل حداثةً وعقلانية واستنارةً، وإلا كيف نفسّر خراب المعنى وخسارة القضايا وانهيار المشاريع بعد كل هذه المحاولات والنضالات طوال عقود!
وفي ضوء هذا الفهم لا تعود المشكلة تتعلق بإنقراض العرب، وإنّما تكمن في مأزق النخب الثقافية والأنظمة السياسية بأفكارها المستهلكة ووسائلها العقيمة التي لا تغير واقعاً ولا تحقق تقدّماً أو تصنع ازدهاراً. ولكن المجتمع ليس هو مجرد ساسته ومثقفيه أو دعاته ومنظّريه. هناك فاعلون في المجتمعات العربية يمارسون ازدهارهم في مجالات عملهم، على سبيل الإختراع والإبداع، بإنتاج ما هو خارق من الأعمال والنصوص والأفكار، وما به يساهمون في صناعة الحياة العربية والحضارة القائمة التي هي حضارة عالمية معولمة، بقدر ما هي كوكبية في عصر المعلومة والأدوات الفائقة.
وبقدر ما يتكاثر هؤلاء وتزداد فاعليتهم أو تتّسع مساحات تأثيرهم، إنّما يسهمون في تغيير مجتمعاتهم على وجهين: الأوّل هو خلق إمكانات لتغيير الواقع السياسي وتوسيع مساحة الحرّيات بشلّ قوى الهيمنة والاستبداد والاستئثار؛ الثاني هو تغيير عقول المثقّفين. فقد حلُم هؤلاء بتغيير المجتمعات بعقلياتهم النرجسية وعقائدهم المهدوية، فكانت النتيجة أنّ العالم تغيّر بعكس ما أرادوا، وأنّهم فقدوا المصداقية لكي يمسوا على هامش الأحداث والمتغيّرات. وهذا يشهد على جهلهم المركّب بالنفس والآخر والواقع. ولذا فالأرجح أنّ المجتمعات بقواها الحيّة والمدعة، عبر المشاركة في أعمال الإختراع والإبداع، هي التي سوف تغيّر عقول المثقّفين، سواء من حيث تصوّراتهم للواقع أو من حيث صورهم عن أنفسهم.
وتلك هي المفارقة. فأزمة التحديث والتقدّم يصنعها الحداثيون والتقدّميون، كما أن أزمة الإستنارة والعقلانية مصدرها التنويريون والعقلانيون. فالكل قدسوا العناوين والشعارات التي استهلكت وفقدت صلتها بحركة الواقع وعمل المجتمعات وسير العالم.
المصدر: كتاب المصالح والمصائر صناعة الحياة المشتركة