يحيى اليحياوي
من غير المجانب للصواب كثيراً حقيقة القول بأن هجرة الأدمغة والكفاءات العربية، إنما هي في الآن ذاته نتاج هشاشة منظومة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي وسبباً رئيسياً في استمرارية هذه الهشاشة في الزمان والمكان كليهما.
والواقع أن فهم إشكالية هجرة الكفاءات العربية لا يُمكن أن يتم إلا من خلال مساءلة الأسباب الكامنة خلفها ووضعها في السياق العام الذي استنبتها وخلق لها المجال في التوسّع والإنتشار.
وعلى الرغم من بعض الجهود القطرية لاستعادة جزء من هذه الكفاءات بهذا الشكل أو ذاك، فإن المؤكد حقاً أن سبل الإستفادة منها إنما يمرّ عبر إقامة منظومة عربية شاملة للبحث العلمي وللإبداع التكنولوجي محددة الرؤية، واضحة المعالم.
1- في الأسباب الجوهرية لهجرة الكفاءات العربية
قد تختلف تسميات الظاهرة (بين انتقال وهجرة نزيف وما إليها)، لكن النتيجة واحدة، وتكمن في انتقال الأفراد من ذوي التأهيل والتكوين العالي (خريجي التعليم الجامعي تحديداً) من بلدهم الأصلي إلى بلد آخر بغرض العمل والإقامة المؤقتة الطويلة أو الدائمة.
ويبدو، على الأقل من وجهة نظر الخبراء في هذا الميدان، أنه مع ضآلة المعطيات الإحصائية حول حجم هذه الهجرة (تُقدّر بعشرات الآلاف سنوياً ومستوياتها في تزايد مستمر تُقدّر بالآلاف أيضاً)، فإن الأهم اليوم هو التساؤل عن أسبابها الكبرى ودوافعها الأساسية... والتي تسلب دول العالم الثالث، والدول العربية تحديداً، شرائحها الحيوية في إنتاج وتركيم وتوزيع المعرفة حاضراً وفي المستقبل.
والواقع أنه لو تسنّى للمرء أن يتلمّس الأسباب الجوهرية الكبرى التي تدفع بالشريحة العالية التكوين والتأهيل للهجرة من الدول العربية نحو الغرب، لاستوقفه حتماً مسببّان رئيسيان هما موضع توافق كبير بين الباحثين في هذا المجال:
السبب الأول، يرتبط بهشاشة منظومة البحث العلمي والإبداع التكنولوجي التي تحدّثنا عنها سابقاً، والتي تحول ليس فقط دون الإستفادة من خبرات العلماء والمهندسين العرب ذوي التكوين العالي (في الداخل أو الخارج)، بل وتحول أيضاً دون خلق شروط التواصل بين هؤلاء (فيما بين الدول العربية) بغرض الدفع قُدماً بمشروع بحثي ما أو البحث عن سُبُل لتطبيق برنامج استحدثه هذا العالِم أو ذاك، هذه المجموعة أو تلك.
ولا يقتصر الأمر ها هنا على ضعف الإمكانات المادية وتدنّي شروط البحث العلمي والإبداع التكنولوجي، بل يتعداه ليطاول شتى ضروب الإتصال والتواصل مع المراكز الكبرى في العالم أو المعاهد المشتغلة على هذه المسألة أو تلك، خاصةً إذا كانت الكفاءات من مستوى عال يستحيل في ظل وضعية التخلف ترجمة معارفها على أرض الواقع (حالة الكفاءات الطبية او النووية أو غيرها).
لن يكون من المستغرب حقاً القول إن هذه الوضعية المشار إليها لا يمكن إلا أن تستنبت لدى العالِم في البلدان العربية مختلف أشكال التردي والإحباط، بل وتدفعه إلى الإرتكان لتلقين دروس أكاديمية صرفة، من غير المؤكّد أنها ستفرز كفاءات جديدة في المستقبل أو تعيد إنتاج ما توافر منها على مستوى الحاضر.
وبالتالي، لو عمدت تلك الكفاءات إلى سلوك سبيل الهجرة بحثاً عن آفاق جديدة بالإمكان توظيف معارفها وخبراتها فيها، فلا يجب أن يبدو ذلك (على الأقل في منظور صاحب القرار) غريباً أو شاذاً أو تنكراً من جانب هذا العالِم أو ذاك لبلده أو لأهله وذويه. وبالعكس، فالأمر يبدو منطقياً وموضوعياً، ولا غبار عليه البتة.
أما السبب الثاني، فيتراءى لنا (كما لغيرنا) كامناً في التغييب المستمر لمنظومة الحرية وسبل التعبير والتفكير التي تعتبر لازمة ضرورية لعمليات البحث العلمي والإبداع التكنولوجي في الوطن العربي كما في سواه من مناطق وجهات العالم.
والحقيقة أن هذا الإكراه، وأنْ كان ينطبق تحديداً على العلوم الإجتماعية والإنسانية، فهو ينطبق أيضاً على المجال العام الذي في صميمه تُستدعى ملكات البحث وتُستنفر سبل البحث والتطوير... إذ إن البحث والتطوير عملية متكاملة ومنصهرة، وليس من الوارد حقاً تجزيء عناصرها ومكوّناتها.
ومعنى هذا، أن التضييق على مبدأ الحرية في التفكير والتعبير في البلدان العربية لا يطاول ميداناً دون آخر، بل يطاول جل الميادين، إذ لا سبيل للبحث في أصول الفقه مثلاً أو في أخلاقيات الإستنساخ إذا لم يكن السياق محفزاً والحريات الأساسية قائمة، غير مرهونة. ومعناه أيضاً، أن سُبُل البحث في منظومات القيم القائمة لا تختلف كثيراً عن دراسة أمراض الختان أو مخاطر ختان البنات، إذا كانت الثقافة السائدة ترفض ذلك، أو كانت روافدها تستهجن البحث في قضايا كهذه جملة وتفصيلاً... وهكذا.
قد لا يختلف المرء حول دوافع الهجرة هذه ولا حول حق الفرد العالِم في اعتمادها كخيار ذاتي "وإلى حد بعيد موضوعي على ما يقول البعض"، لكن الذي لا مجال للإختلافات بشأنه حقاً إنما هو أثر الهجرة على اقتصادات الدول العربية راهناً وعلى مستقبلها المنظور دونما شك أيضاً.
2- عن أثر هجرة الكفاءات على البلدان العربية
ثمة جدل كبير، يكاد يكون تاريخياً، حول آثار هجرة الكفاءات العربية، وفيما إذا كان لذلك فقدان أو خسارة للبلد المنطلقة منه والنازحة عنه، أم فائدة منتظرة قد تعود عليه بهذا الشكل أو ذاك.
والواقع أن الذين يرتأون في تلك الهجرة فائدة للبلد الأصل، إنما ينطلقون من مسلمة أنه ما دامت الكفاءات تندمج في منظومات علمية وتكنولوجية أكثر تقدماً، فإن ذلك من شأنه الرفع من إنتاجيتها العامة ومن مستوى إسهامها في إنتاج المعارف والخبرات التي لا تفيد بلد المنشأ فحسب، بل والإنسانية جمعاء. إذ إن اكتشاف لقاح مثلاً أو تطوير برمجيات معلوماتية أو استنباط أنماط جديدة في التنظيم الصناعي والتقني، لا تفيد طرفاً بحد ذاته فحسب، بل تنتقل آثاره الإيجابية إلى ما سواه من دول وشعوب. وهو تصورٌ لا يخلو كثيراً من الصواب على الأقل من وجهة النظر القائلة إن المعارف والعلوم إنما هي نتاج البشرية جمعاء وغالباً ما تستفيد منه حتى وإن لم يتأتَ لها ذلك إلا بعد فترات طويلة من الإحتكار الذي تمارسه الجهة صاحبة الإكتشاف أو التطوير.
لكن هذا التصور، وعلى وجاهة طرحه، إلا أنه يناقش الآثار المباشرة وغير المباشرة لهجرة الكفاءات على البلدان الأصل، ومدى مأثيرها على راهن تلك البلدان الإقتصادي والإجتماعي والعلمي وعلى مستقبلها.
والحاصل حقاً أن الجدل يكاد يكون محسوماً في هذه النقطة، لجهة أن في الهجرة تلك خسائر كبرى للبلدان الأصل في حاضرة كما في مستقبلها سواء بسواء:
أما الخسارة الأولى، فهي المترتبة عن "التكلفة التاريخية التي يتكبدها المجتمع في تكوين وتعليم المهاجر مباشرة أو بطريق غير مباشر حتى وقت الهجرة... وقد قدّر بعض الباحثين أن ألمانيا الغربية مثلاً قد وفرت في نفقات تربية الأطفال والتعليم التي كان يمكن أن تتحمّلها للحصول على عدد العمال المهاجرين نفسه الذي حصلت عليه في الفترة 1957- 1973 مبلغاً يكفي لأن يتحول في 1973 إلى ما يزيد عن 27 مليار مارك، أو أكثر من 1 بالمائة من جملة رأس المال القومي حينئذ".
الخسارة الثانية، ويمكن الوقوف عليها في ما يترتب على هجرة الكفاءات من انخفاض للرصيد المعرفي للبلد الأصل، وبالتالي الإنخفاض على مستوى الناتج العام على اعتبار افتقار البلد الأصل للعناصر الحيوية التي من شأنها توفير قيم إضافية للإقتصاد والمجتمع على السواء.
أما الخسارة الثالثة، فتتمثل في أن هجرة الكفاءات من شأنها تقويض سبل إفراز كفاءات جديدة من ذات الكفاءات نفسها إن تسنى لها أن تبقى في بلدانها. وهو أمر لا يحول فقط دون استنبات فئات جديدة، ترفع من حجم الكفاءات العام (بالتعليم العالي تحديداً)، بل وأيضاً إضعاف سبل إقامة منظومة لإنتاج المعرفة واكتسابها، وتوسيع فضاء الإستفادة منها على المستوى الإقتصادي والمجتمعي.
الخسارة الرابعة، وتتمثّل في الموارد الضخمة التي تصرفها البلدان العربية للحصول على الخبرات الأجنبية، وهو ما يحمل "المشروعات الصناعية العربية تكاليف إضافية للخدمات الإستشارية والعمولات والرشاوى والتلاعب بالأسعار نسبة تتراوح بين 200 و300 بالمائة مقارنة بالتكاليف الأولية. وأن قيمة الإرتفاع في هذه التكاليف خلال خمس سنوات فقط (ما بين 1975- 1980) بلغت 25 مليار دولار، أي أكثر من إجمالي الإنفاق العربي في مجالات التعليم والبحوث والتقانة في المدة من 1960 إلى 1984).
ليس ثمة شك كبير، بالملاحظة، كما بالمعطيات الإحصائية، في أن هجرة الكفاءات هي مصدر خسارة كبرى للبلدان الأصل، إذ من بين 300،000 من خريجي المرحلة الجامعية الأولى من الجامعات العربية في العام الدراسي 1995- 1996 يقدر أن نحو 25 بالمائة منهم هاجروا إلى أمريكا الشمالية ودول السوق الأوروبية. وبين عامَيْ 1998 و2000 غادر أكثر من 15،000 طبيب عربي إلى الخارج.
3- سُبُل مواجهة هجرة الكفاءات؟
أضحى من الثابت اليوم أن العربية (وبيئة بلدان العالم الثالث عموماً) إنما هي طاردة للكفاءات بامتياز، ليس فقط نتيجة عدم توافر الحد الأدنى لـ "رفاه" الباحثين والعلماء، بل وأيضاً بسبب غياب منظومة في البحث العلمي والإبداع التكنولوجي تثني هؤلاء عن الهجرة أو تعمل على احتضانهم بهذا الشكل أو ذاك.
ولما كان من الثابت أيضاً أن الظاهرة عدت ذات خطورة كبيرة على الدول والشعوب، فقد عُمِد منذ سبعينات القرن الماضي إلى الدفع بحلول تضمن حلاً عادلاً لدول العالم الثالث. لكنها لم تفرز، في معظمها، سياسات ناجعة لبلوغ ذلك الحل:
* فاقتراح فرض ضرائب على الكفاءات المهاجرة في بلدان المهجر (تخصص عائداتها لدعم البلدان الأصل) لم يترتب عنه شيء يذكر، تماماً كما لم تقم الدول المصنعة بتقديم تعويضات للدول المستَنزَفة على اعتبار أن الماهجرين يقومون بذلك طواعية ولا أثر للقسر في ذلك.
* واقتراحات فرض قيود إدارية تحدّ من الهجرة عبر تقييد المهاجرين (تحديد السفر، تقييد الجوازات... إلخ) لم تفضِ إلى شيء يُذكر، ليس فقط لأنه سينظر إليها على أنها مقيدة للحريات العامة، بل وأيضاً لأنها تتعامل مع الشكل في حين أن الجوهر يقتضي إعادة النظر في الظروف التي تجعل البيئات طاردة، عوض أن تكون حاضنة أو مستقطبة.
* واقتراح التحفيز من الداخل (عبر الإغراءات المالية أو التحسين في ظروف عيش العلماء والباحثين) غير مجدية، ليس فقط لكونها غير عملية في محيط عام لا يعير البحث العلمي كبير اعتبار، بل وأساساً لأن هذه التحفيزات لا يمكن أن تبلغ مستويات ما يقدم للكفاءات ذاتها في الدول المصنّعة.
* والقول الذي تردده الكفاءات المهاجرة أو العازمة على ذلك، بأنه لا أمل في البقاء طالما بقيت البيئة العامة على حالها قول غير دقيق، إذ أنّ تغيير هذه البيئة لا يتم إلا بتوافر دول الطليعة الذي من المفروض أن يقوموا هم بالمساهمة فيه، لا أن ينتظروا، كما يقول أنطوان زحلان، "حتى تُكسب الحرب في مجال البحث العلمي ويأتي الجنرالات لقيادتها".
ما السبيل إذن لتوقيف النزيف أو التخفيف من وطأته؟
يبدو أنه لا توجد حلول جذرية وناجعة في الآماد القريبة، كون العملية مستهلكة للزمن وتتطلب مشروعاً قويماً للنهضة شاملاً كما عمدت إلى سنه الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وما سواها.
يقول أنطوان زحلان فيما يخص هذه النقطة: إن الحل الناجع لحل نزيف الكفاءات إنما يكمن في "النضال من أجل حل في إطار عملية نهوض عربي شامل. ويستهدف هذا النضال تعليل الآليات الأساسية التي تؤدي لنشوء ظاهرة هجرة الكفاءات.
بمعنى، العمل على كسر طوق التبعية العضوية للغرب الرأسمالي، بما في ذلك الإنسلاخ عن السوق الدولية للكفاءات وتخليق دور فعال للكفاءات العربية في تطوير القدرة الإنتاجية المحلية للوفاء باحتياجات الناس في المجتمعات العربية، وتدعيم ذلك الإتجاه بتحويل نظام التعليم لإنتاج الكفاءات والمهارات المتوائمة مع ذلك الهدف، وترسيخ نسق قيم يكافئ المساهمة في تحقيق الأهداف المجتمعية بدلاً من التراكم المادي الفردي، على أن يتم كل ذلك في إطار مشاركة شعبية فاعلة (حكم صالح) وتعميق الإنتماء الحضاري العربي,وهذه كلها مواصفات جزئية لمشروع قومي للنهضة.
وبالتالي، فعودة الكفاءات المهاجرة، وثني تلك المستعدة للهجرة، لا يمكن أن يتم إلا إذا التحمت هذه الكفاءات عضوياً في المشروع القومي للنهضة. صحيح أنها ستعيش تحت ظروف أكثر قسوة من ظروفها في المهجر، لكن الذي سيشفع لها إنما هو الرغبة "في النضال نحو هدف يحقّق انتماءها الوطني ويقدّم لها ولأبنائها مستقبلاً أفضل يُشاركون في صنعه وفي جني ثماره"... وإذا "لم يقم مشروع قوي للنهضة في الوطن العربي، فلا يجب أن تُقلقنا مسألة الكفاءات العربية المهاجرة إذ سيكون وجودنا ذاته مهدداً".
المصدر: كتاب العرب وشبكات المعرفة