* صلاح الصيفي
الحديث عن أزمة البحث العلمي في الوطن العربي يعني مناقشة أسباب التخلف العربي عن ركب الحضارة والنهضة العلمية المتلاحقة في دول العالم المتقدم، فبينما يحقق العالم من حولنا قفزات هائلة في مجال الإنفاق على البحث العلمي وبراءات الاختراع واستثمار البحوث يتراجع البحث العلمي العربي عاما بعد آخر، وإن تقدم خطوة فإنه لا يواكب مئات الخطوات التي اجتازها الغرب!
وتتجلى أهمية البحث العلمي بصورة كبيرة في عصرنا الحالي الذي يُرفع فيه شعار "البقاء للأقوى"؛ إذ أصبح البحث العلمي والتطوير محرك النظام العالمي الجديد.. وقد أصبحت الحاجة إليه أشد من أي وقت مضى؛ حيث أصبح العالم في سباق محموم للوصول إلى أكبر قدر ممكن من المعرفة الدقيقة المثمرة التي تكفل الراحة والرفاهية للإنسان، وتضمن له التفوق على غيره.
ومن يرصد حال تخلف العرب في مجال البحث العلمي يعجب عندما يعلم أن المسلمين العرب كانوا أول من حمل شعلة الحضارة الفكرية للعالم، وكان هذا إيذاناً ببدء العصر العلمي القائم على المنهج السليم في البحث، فقد تجاوز الفكر العربي الإسلامي الحدود التقليدية للتفكير اليوناني، وأضاف العلماء العرب المسلمون إلى الفكر الإنساني منهج البحث العلمي القائم على الملاحظة والتجريب، بجانب التأمل العقلي، كما اهتموا بالتحديد الكمي واستعانوا بالأدوات العلمية في القياس.
وفي العصور الوسطى بينما كانت أوروبا غارقة في ظلام الجهل كان الفكر الإسلامي يفجّر ينابيع المعرفة، ثم نقل الغربُ التراثَ الإسلامي، وأضاف إليه إضافات جديدة حتى اكتملت الصورة وظهرت معالم الأسلوب العلمي السليم، في إطار عام يشمل مناهج البحث المختلفة وطرائقه في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية.
فقد تمثل المسلمون المنهجية في بحوثهم ودراساتهم في مختلف جوانب المعرفة.. والمنهجية التي اختطوها لأنفسهم تلتقي كثيراً بمناهج البحث الموضوعي في عصرنا، وشهد بذلك بعض المستشرقين الذين كتبوا مؤلفات يشيدون فيها بما يتمتع به العلماء المسلمون من براعة فائقة في منهج البحث والتأليف، ويبدو ذلك واضحاً في كتاب (مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي) للمستشرق "فرانتر روزنتال"، ومن هنا يتبين إسلامية وعربية البحث العلمي من حيث النشأة والبداية والسبق.
معدّل الإنفاق
وإذا ألقينا نظرة سريعة على البحث العلمي، نجد أنه يختلف كثيراً عن المعدل العالمي للإنفاق على البحث العلمي، ويختلف كثيراً عاماً بعد آخر.. ورغم أن معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي قد حقق تقدماً في الفترة من عام 1970م وحتى عام 2005م، إلا أن هذا التقدّم حدث بشكل نسبي وضئيل جداً مقارنة بمعدل الإنفاق العالمي، فهذا الإرتفاع الذي حدث خلال هذه الفترة الطويلة كان نتيجة لإرتفاع نسبة الإنفاق على البحث العلمي قياساً إلى الناتج المحلي من 0,31% عام 1970م، ومن ثَمَّ فلا تأثير لهذا الإرتفاع الضئيل على الفجوة الكبيرة بين الأقطار العربية والمجموعات الدولية في هذا المجال.
وتختلف الأقطار العربية فيما بينها من حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي، والملاحظ أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتجاوز 0،5% في الأقطار العربية كافة لعام 1992م، وهي نسبة ضئيلة عند مقارنتها بمثيلاتها في السويد، وفرنسا حيث بلغت 2،9%، و2,7% على التوالي.
وفي عام 1999م كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في مصر 0،4%، وفي الأردن 0,33%، وفي المغرب 0,2%، وفي كل من سورية، ولبنان, وتونس 0,1% من إجمالي الناتج القومي، وتؤكد ذلك إحصاءات منظمة اليونسكو لعام 1999م. أما إحصاءات عام 2004م لنفس المنظمة العالمية، فتقول: إن الدول العربية مجتمعة خصصت للبحث العلمي ما يعادل 1،7 مليار دولار فقط، أي ما نسبته 0,3% من الناتج القومي الإجمالي. في حين نلاحظ أن الإنفاق على البحث العلمي في "إسرائيل" (ما عدا العسكري) بلغ 9,8 مليار شيكل، أي ما يوازي 2,6% من حجم إجمالي ناتجها القومي في عام 1999م، أما في عام 2004م فقد وصلت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في "إسرائيل" إلى 4,7% من ناتجها القومي الإجمالي، علماً بأن معدل ما تنفقه على البحث والتطوير المدني في مؤسسات التعليم العالي يوازي 30,6% من الموازنة المخصصة للتعليم العالي بكامله، ويُصرف الباقي على التمويل الخاص بالرواتب، والمنشآت، والصيانة، والتجهيزات... إلخ، على عكس ما يحدث في البلدان العربية، حيث تُصرف أغلب الموازنة المخصصة للبحث العلمي على الرواتب، والمكافآت، والبدلات، وغيرها.. وجدير بالذكر أن المؤسسات التجارية والصناعية في الكيان الصهيوني تنفق ضعفَيْ ما تنفقه الحكومة على التعليم العالي.
وتحتل "إسرائيل" المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة بعد "وادي السليكون" في "كاليفورنيا" و"بوسطن" بالولايات المتحدة، والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى في العالم المنتجة للأبحاث والاختراعات.. أما بالنسبة إلى عدد سكانها قياساً إلى مساحتها فتُعَدُّ الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية.
معوّقات عدّة: ويعاني الوطن العربي من وجود صعوبات ومعوقات متعددة تعيق البحث العلمي، ومن أهمها:
- تدني الاهتمام بالباحث العربي، وعدم توفير جو علمي بعيد ن البيروقراطية والروتين.
- غياب سياسات وإستراتيجيات علمية واضحة تتضمن تحديد الأهداف والأولويات والمراكز البحثية اللازمة، وتوفير الإمكانيات المادية الضرورية.. فالإنفاق على البحث العلمي مرتبط بوجهات النظر في الوزارات المختلفة، فمن الممكن أن توضع خطة للبحث العلمي في وزارة معينة، وبمجرد تغيير الوزارة تصبح الخطة كأن لم تكن.
- تأثير النظام السياسي السائد على العلم ونموه واتجاهاته، وعلى أنشطة المؤسسات العلمية المختلفة وتطويرها.. فالبحث العلمي يتطلب ممارسة للحرية الأكاديمية في أجلى صورها، وإمكانية التعبير عن الإختلاف حتى مع ممثلي السلطة السياسية.
- الباحث في الدول العربية هو في الغالب أحد المحظوظين وليس أحد الأكفَاء المستحقين للرعاية، فالباحث هو الشخص الذي يُمهد له مستقبلٌ دراسي راق في سلك التعليم الجامعي، وهو في كثير من الأحيان قد يأخذ هذا المكان من آخر أكثر استحقاقاً وكفاءة سواء بالواسطة، أو بصلة القربى، أو بالرشوة أو بغير ذلك، ومثل هذا الشخص لا يمكن أن يبتكر شيئاً، والذي يمكنه الابتكار والبحث المجدي يُطرد من مكانه الحقيقي إلى خارج السلك البحثي، ويُضع مكانه من لا يستحق.
- عدم التخطيط الجيّد للبعثات العلمية والإيفاد إلى الخارج؛ رغم التكاليف الكبيرة التي تتحملها الدول العربية في هذا الصدد.
- عدم توافر المناخ العلمي الذي يحفز ويشجع على البحث العلمي واستثمار القدرات الإبداعية والابتكار للأفراد العلميين.
- عدم تخصيص ميزانية مستقلة ومشجّعة للبحوث العلمية في الجامعات، إضافة إلى أن الحصول على منحة بحثية يستغرق إجراءات طويلة ومعقّدة مع قلة في الجهات المانحة، فالدول المتقدّمة ترصد ميزانيات ضخمة للبحوث العلمية لمعرفتها بالعوائد التي تغطي أضعاف ما تنفقه، في حين يتراجع الإنفاق على البحوث العلمية في الدول العربية بسبب النقص في التمويل الذي تنفق نسبة كبيرة منه على الأجور والمرتبات.
- غياب القطاع الخاص عن المساهمة: إذ يُعد القطاع الحكومي الممول الرئيس لنظم البحث العلمي في الدول العربية بإسهام يبلغ حوالي 80% من مجموع التمويل المخصص للبحوث والتطوير، مقارنة بـ 3% للقطاع الخاص، و17% من مصادر مختلفة، وذلك على عكس الدول المتقدّمة و"إسرائيل".. وعلى سبيل المثال، تبلغ حصة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي 70% في اليابان، و52% في "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية.
- قلة عدد الباحثين والمختصين، وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة؛ بسبب انشغال عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس في العمل الإضافي.. ولذلك تُعد أنشطة البحث العلمي التي تجرى في المراكز والجامعات العربية من أضعف الأنشطة البحثية في العالم.
- عدم إدراك المجتمع العربي الحالي أهمية البحث العلمي من حيث أولويته على كثير من الأنشطة والمجالات، وربما يتعلق ذلك بالتنشئة الإجتماعية التي أكسبت الجماهير العربية الحالية هذه النظرة السلبية نحو البحث العلمي، وأصبح الناس غير مدركين لخطورة تدهور البحث العلمي العربي، وتاخره عن ركب الحضارة.
هجرة الأدمغة العربية
ونتيجة لهذه المعوقات والمشكلات التي تواجه البحث العلمي في الوطن العربي، كان من الطبيعي أن تؤدي إلى ظاهرة غاية في الخطورة، وهي هجرة "الأدمغة" العربية إلى الغرب، ومدى تأثيرها الكبير على عملية التنمية العربية، ولاسيما ما تسببه من خسائر مادية وعلمية للدول العربية.
ونذكر هنا بعض الأمثلة على نوعية الكفاءات العربية المهاجرة إلى الغرب، فهناك حوالي عشرة آلاف مهاجر مصري يعملون في مواقع حساسة بالولايات المتحدة الأمريكية، من بينهم ثلاثون عالم ذرة يخدمون حالياً في مراكز الأبحاث النووية، ويشرف بعضهم على تصنيع وتقنية الأسلحة الأمريكية الموضوعة تحت الاختبار.
الدول العربية تنفق على البحث العلمي 0,3% من إجمالي ناتجها القومي.. بينما بلغ معدل إنفاق الكيان الصهيوني 4,7% في عام 2004م!
وعموماً فإن خصارة القدرات البشرية المتخصصة تُفقد العرب مورداً حيوياً وأساسياً في ميدان تكوين القاعدة العلمية للبحث والتكنولوجيا، وتبدّد الموارد المالية العربية الضخمة التي أنفقت في تعليم هذه المهارات البشرية وتدريبها، والتي تحصل عليها البلدان الغربية بأدنى التكاليف.. ففي الوقت الذي هاجر فيه. أو أجبر على الهجرة. مئات الآلاف من الكفاءات العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، تدفع البلدان العربية أموالاً طائلة للخبرات الدولية، الأمر الذي يحمّل المشروعات الصناعية العربية تكاليف إضافية للخدمات الاستشارية والعمولات والرشاوى والتلاعب بالأسعار.. وقد ارتفعت قيمة هذه التكاليف إلى 25 مليار دولار خلال خمس سنوات فقط بين 1975و1980م.
ما الحل؟!
وبعد طرح مشكلة البحث العلمي العربي، والفجوة الكبيرة بيننا وبين الغرب والكيان الصهيوني في هذا المجال، فإن التساؤل المنطقي في هذا الصدد هو: ما الحل؟
إن الدول العربية مطلوب منها في الوقت الحالي وضع إستراتيجية للبحث العلمي والتطوير تتلاءم مع إستراتيجية التنمية المتبعة في الدول العربية، وإنشاء وزارة أو إدارة مهمتها الإشراف على عملية البحث والتطوير، ودعم مؤسسات البحث العلمي عن طريق زيادة النسبة المخصصة من الدخل القومي للبحث العلمي والتطوير وجعلها تقارب النسبة المخصصة لهذا الغرض في الدول المتقدمة.. وكذلك زيادة الاهتمام بالباحث العربي وتحسين وضعه المادي ومستوى معيشته؛ لكي يتفرغ بشكل كامل للبحث العلمي، وأيضاً تشجيع القطاع الخاص للمساهمة في دعم وتمويل البحث العلمي وزيادة الاستثمار فيه بسبب دوره الكبير في تحقيق الربح للمؤسسات التي تعتمد عليه.
كما أن من الضروري الاهتمام بخريجي الجامعات، والإستفادة من طاقاتهم وقدراتهم، والاهتمام كذلك بالتأليف وتنشيط الترجمة للأبحاث والمصادر العلمية الأجنبية إلى اللغة العربية، والتعاون مع العلماء العرب في الخارج من أجل تعريب أعمالهم وأبحاثهم، بالإضافة إلى وقف هجرة "الأدمغة" العربية إلى الخارج بتحسين أوضاعهم وتأمين مطالبهم اللازمة لإنجاز بحوثهم في بلدانهم.